الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا لإتباع هدي خير الأنام، أحمده سبحانه وأشكره ما تعاقبت الليالي والأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا أوامره، وابتعدوا عن نواهيه، وقفوا عند حدوده، وافرحوا بما منَّ الله به عليكم من الهداية إلى دينه، والتمسك به﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس:58] حققوا إيمانكم بربكم، واستقيموا عليه، فإن الله أخبر أن من آمن به واستقام على ذلك فلا خوف عليه ولا هو يحزن ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف:13] ولما طلب أحد أصحاب رسول الله r وصية جامعة لا يسأل عنها بعد رسول الله أحدًا قال له r : (( قل آمنت بالله ثم استقم )) (1).
إن الاستقامة هي توحيده سبحانه وطاعته،وأداء فرائضه وإخلاص العمل لله وحده والاستمرار على ذلك حتى نهاية العمر.
إن الله وصف المؤمنين بصفات تتضح وتتجلى لكل أحد، فعلينا أن نطبق ذلك على أنفسنا، ونتفقد أحوالنا، هل حققنا الإيمان كما أمر الله، أو أننا اتصفنا به اسمًا ولم نحققه معنى؟.
يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:2-4] هذه الآيات الكريمات بينت المؤمن الحقيقي من غيره، فإذا اتصف العبد بصفات الإيمان واستقام على ذلك؛ امتلأ قلبه أمنًا،وإيمانا، ويقينًا، ونورًا، وهداية، وتعبدًا لله، وتألهًا له، وإنابة إليه في كل الأحوال، ولجوءًا إليه في كل النوازل والمهمات، وطمأنينة بمعرفته، وسكونًا إلى ذكره والثناء عليه، وأوجبت للعبد قوة التوكل على الله، والاعتماد الكامل عليه، والاستعانة به في مزاولة الأعمال الدينية والدنيوية، وكلما ضعفت إرادة العبد ووهت قوته في محاولة المهمات أمده هذا الإيمان الصادق بقوة قلبية، تتبعها الأعمال البدنية، وكلما أحاطت به المخاوف كان هذا الإيمان حصنًا حصينًا يلجأ إليه المؤمن، فيطمئن قلبه، وتسكن نفسه، يقول U :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران:173-174].
وهذا الإيمان الصادق، واليقين الصحيح، يحمل صاحبه على العزة والقوة، والشجاعة القولية والفعلية، فإنه متى تيقن العبد أن الله هو النافع الضار، المعطي المانع، وأن من اعتز به فهو العزيز، ومن التجأ إلى غيره فهو الذليل، وأن الخلق كلهم فقراء إلى الله، لا ينفعون ولا يضرون، أوجب له ذلك القوة بالله، والالتجاء إليه، وأن لا يخاف ولا يرجو أحدًا غير الله، ولا يطمع إلا في فضله، كما قال r لعبد الله بن عباس: (( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف )) (2).
وإن من ثمرات الإيمان الصادق أنه يسلي العبد عند المصائب، ويهون عليه الشدائد والنوائب، â:﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن:11]، وهو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيرضى ويسلم للأقدار المؤلمة، وتهون عليه المصائب المزعجة لصدورها من عند الله، وبقدره، وقضائه، ولما ينتظره إذا صبر من الثواب والجزاء العاجل والآجل على يقينه وصبره قال سبحانهâ﴿ولَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:104].
ومن ثمرات الإيمان الصادق أنه يقوي الرغبة في فعل الخيرات، والتزود من الأعمال الصالحات، ويدعو إلى الرحمة والشفقة على الخلق، وذلك بسبب داعي الإيمان، وبما يحتسبه العبد عند الله من الثواب الجزيل، والفضل العظيم، فهل يُتَوصَّل إلى الأخلاق الحميدة، والصفات الكريمة إلا بالإيمان !! وهل يعصم العبد من انحلال الأخلاق المؤدية إلى الشرور والهلاك إلا الإيمان!! وهل أودت بكثير من الخلق الأمور المادية والشهوات البهيمية والأخلاق السبعية وهبطت بهم إلى الحضيض إلا حين فقدت روح الإيمان!! وهل تؤدي الأمانات والحقوق الواجبة بغير وازع الإيمان !! وهل تحصل السعادة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان!!.
يقول سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بربكم، واعلموا أن من أفضل خصال الإيمان هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة، هذه الصلاة التي تفرق بين المسلم والكافر، بين المؤمن وغيره، وقد سماها الله إيمانًا كما قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة:143] أي: صلاتكم. فحافظوا عليها كما أمركم ربكم، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة:238]، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:34-35].
إن الصلاة أعظم عبادة تثبت الإيمان وتنميه، وتنمي ما يثمره الإيمان من فعل الخير والرغبة فيه. إنها أعظم عبادة يحصل بها الذل والخضوع، وامتلاء القلب من الإيمان بالله وتعظيمه، إنها أعظم عبادة تبعد صاحبها عن الذنوب والمعاصي، وتنهاه عن الشر والفساد. ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، برقم (38).
(2) رواه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2516).
المرفق | الحجم |
---|---|
thmrat1.pdf | 331.75 كيلوبايت |