الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، وإليه المآب والرجعى، أحاط بكل شيء علما، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، أحمده سبحانه وأشكره، وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها فردا صمدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أكمل البرية خلقا وسؤددا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم على الهدى.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية، وتقربوا إليه بشكره وذكره، وتوحيده وعبادته، واعملوا بكتاب ربكم، وخذوا بنصيحة نبيكم الناصح الأمين، فلقد أشفق عليكم r غاية الإشفاق، ومحضَكم النصيحة، وأرشدكم إلى ما فيه صلاحكم، وفلاحكم في الآخرة والأولى، فكان مما أرشدنا إليهr هذه الكلمات النافعات الجامعات التي أرشد إليها r ابن عمه حبر هذه الأمة، فما أعظمها وأجمعها لخيري الدنيا والآخرة.
فقد روى الترمذي وصححه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: « كنت خلف النبيr يوما، فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ».
عباد الله: إن هذا الحديث من أعظم الحكم، والوصايا التي وصى r بها أمته، إنه حديث جليل عظيم المقدار، ما أسعد من تدبره وتفهمه، وعمل به، وما أشقى من أعرض عنه، ولم يعمل به، فقوله r: « احفظ الله ». أي: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده. فلا تتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه، قال سبحانه: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}[ق:32-33]. ومن أعظم ما يجب حفظه، والمحافظة عليه الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239].
وكذلك المحافظة على ما لا تتم إلا به كالوضوء والغسل من الجنابة، ومما يجب المحافظة عليه الأيمان كما قال سبحانه:{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة:89]. فإن الأيمان تقع من كثير من الناس، ويقع فيها الإهمال وعدم الاكتراث والالتزام بلوازمها، فأمر بالمحافظة والحفظ لها، ويدخل بالأمر بالحفظ، الحفظ للجوارح كالسمع والبصر والفؤاد يقول سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وكذا حفظ اللسان الذي هو من أعظمها خطرا يقول r: « وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ».
ومما يجب حفظه الفرج لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5]. فمن حفظ أوامر الله وحدوده حفظه الله، حفظه في نفسه، أهله وماله. وقوله r: « احفظ الله يحفظك ». يعني: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، وحفظ الله لعبده يدخل فيه حفظه له في مصالح دينه ودنياه، يحفظه في بدنه وولده، وأهله وماله، يقول سبحانه:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }[الرعد:11].
قال ابن عباس: « هم الملائكة يحفظونه بأمر الله ». ومن حفظ الله لعبده أن يوفقه للمحافظة لحدوده، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه، بأنواع من الحفظ قد لا يشعر بها العبد، وقد يكون كارها لها قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }[الأنفال:24]. قال: « يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار ». وقال الحسن رحمه الله: « إن أهل المعاصي هانوا على الله فعصوه ولو عزّوا عنده لعصمهم ».
وقوله r: « احفظ الله تجده تجاهك ». أي: أمامك. المعنى: أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، حيث توجه، يحوطه، وينصره، ويحميه، ويحفظه، ويسدده: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل:128].
وقوله r: « إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ». هذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء مخ العبادة، فتضمنت هذه الجملة أنه يجب على العبد أن يسأل الله وحده، ولا يسأل غيره، وأن يستعين به، ولا يستعين بغيره، وسؤال الله دون أحد من خلقه هو المتعين، والواجب؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل والمسكنة، والحاجة والافتقار من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع الضر، ونيل المطلوب، وجلب النفع، ودفع المكروه، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده؛ لأنه حقيقة العبادة، وقد قال r محذرًا لنا من التوجه بالدعاء أو السؤال لغير الله، وسماه عبادة، ولا يجوز صرف العبادة لغير الله، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة أن النبيr قال: « الدعاء هو العبادة». وفي لفظ: «الدعاء مخ العبادة».
فمن توجه بشيء من الدعاء لغير الله فقد خالف أمر الله بقوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]. وخالف أمر رسول اللهr بقوله: (( إذا سألت فاسأل الله)).
وقد أوضح القرآن لنا ذلك غاية الإيضاح فقال سبحانه مبينًا ومرشدًا لجميع الأمة:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13- 14].
وقوله r: « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف».
والمراد أن ما يصيب المرء في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب عليه من مقادير ذلك الكتاب السابق، وقد دل القرآن على ذلك، يقول سبحانه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }[التوبة:51].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
المرفق | الحجم |
---|---|
7 - من توجيهاته صلى الله عليه وسلم.doc | 76 كيلوبايت |