الحمد الله الذي يسر لعباده حج بيته الحرام، وجعله سببا لمحو الذنوب والآثام، أحمده سبحانه على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الغفار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على ما هداكم إليه من نعمه الإسلام، الذي هو دينه الذي ارتضاه لنفسه، ومن عليكم به، وأتم عليكم به النعمة، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس.
إن ديننا بأمرنا بالاعتصام بحبل الله جميعا، وينهانا عن التفرق، وقد شرع لنا الاجتماع والتعارف، والاتحاد والتآلف، فأمرنا بصلاة الجماعة في كل يوم وليلة خمس مرات، وفرض علينا اجتماعا أعم من ذلك في كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة، وشرع لنا ما هو أشمل من ذلك في يومي العيدين من كل عام، وكل هذه الاجتماعات التي دعانا إليها ديننا من شأنها أن تجمع أهل الحي أو سكان البلد، وذلك من أجل التواصل والتوادد، وعدم التقاطع، ولتتفق الكلمة، وتتوثق الروابط، وتسود المحبة والوئام بين هذه المجتمعات الإسلامية.
ثم إن من محاسن ديننا أنه لم يكتف بذلك، بل شرع ما هو أعم وأشمل من هذا كله، فدعا إلى اجتماع عالمي شامل يجمع المسلمين من سائر أقطار الدنيا على اختلاف أجناسهم، وتعدد لغاتهم، وتباين عاداتهم، وتباعد أقطارهم؛ يأمون هذا البيت العتيق، الذي شرفه الله وفضله، وجعله مثابة للناس وأمنا، ليجتمعوا في هذه المشاعر المقدسة في صعيد واحد، متمسكين بملة واحدة، متبعين شريعة نبي واحد، بمظهر واحد، قد زالت عنهم الفوارق الجنسية، وظهرت فيهم الأخوة الإيمانية, ملبين لربهم خاضعين له يرفعون أصواتهم بالتوحيد، وإخلاص العبادة لله، علموا أن الأمر كله الله، وأن غيره لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا المميت، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فالله وحده هو النافع الضار المحيي المميت: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 13، 14].
علموا أنه سبحانه المجيب لمن دعاه، المغيث لمن ناداه، فأنزلوا حوائجهم به وحده:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل: 62]. في هذه المواقف المشرفة يتذكرون دعوة خليل الرحمن حينما أمره الله بالنداء لحج بيته الحرام بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج: 27 - 29].
في هذا الموقف العظيم يتذكر المسلم ما هو قادم عليه من أحوال الآخرة وأهوالها من أول ساعة يوضع في قبره إلى يوم وقوفه بين يدي ربه، يوم يحشر الخلائق في صعيد واحد حفاة عراة غرلا: { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19].
عند استشعار ذلك الموقف العظيم يخاف المرء من ذنبه، ويندم على سابق فعله، فيجدد لله توبة نصوحا يعاهد ربه على إخلاص العبادة له وحده، ويندم على ما فرط من عصيانه، ويعزم على الكف عن جميع الذنوب والآثام.
عباد الله: إن الحاج من حين يتجرد من المخيط، ويدخل في إحرامه يتذكر أهوال يوم القيامة، يتذكر نشره وحشره؛لأنه يكون تاركا أهله وولده، مفارقًا ماله ووطنه، بعيدًا عن عاداته، نائيًا عن مألوفاته، متجردًا من مخيط ثيابه، كاشفًا رأسه، مبقيًا شعره وظفره، معرضًا عن زخرف الدنيا، ونعم الحياة، أشعث أغبر، خائفًا وجلًا، لا يدرى هل كان سعيه مشكورًا، وحجه مبرورًا، وذنبه مغفورًا، فيرجع إلى أهله وقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أو يرد حجه عليه فيرجع خاسئًا محسورًا قد باء بالخيبة والحرمان، لم يحصل له إلا التعب والمشقة.
وهكذا يا عباد الله يكون الناس يوم القيامة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا } [الانشقاق: 7 - 12].
أسأله سبحانه أن يمن عليَّ وعليكم بالبصيرة في الدين، وينفعني وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم,ولسائر المسلمين من كل ذنب؛فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرف بيته الحرام، وجعله مأوى أفئدة أهل الإيمان، أحمده سبحانه على إنعامه، وأشكره على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على ما من به عليكم من الوصول إلى بيته الحرام، وإلى هذه المشاعر العظام؛ لأداء فريضة ركن من أركان دينكم، إن هذا البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس، إنه مبعث أفضل المرسلين، ومهبط الوحي المبين، وقبلة المسلمين:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97]. فاشكروا الله على نعمة الوصول إليه، والتزموا الأدب فيه مع الله، فلا تلتفتوا إلى أحد سواه بطلب المدد والحاجات، واتصفوا بالأدب مع نبيه الكريم r، فلا تقدموا على قوله قول من سواه، وتأدبوا مع إخوانكم المسلمين حجاج بيته الحرام، فلا تزعجوهم بكثرة الصخب، ورفع الأصوات، وشدة المزاحمة، والتشويش عليهم بالتجمعات، والتكتل في الطرقات، فإن هذه الأمور من الأذية، وقد حرم الله أذية المؤمنين بقوله سبحانه:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }[الأحزاب: 58]. فلا تقعوا في الإثم وأنتم لا تشعرون، ولا تبطلوا أعمالكم وأنتم لا تعلمون.
المرفق | الحجم |
---|---|
8الحج من محاسن الإسلام.doc | 75.5 كيلوبايت |