الحمد لله الحليم التواب {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر: 3]. أحمده سبحانه وأشكره على كل حال، وأعوذ بالله من أحوال أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله، وراقبوه، اتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. عباد الله، إن الحياة الطيبة السعيدة كل ينشدها، ويجري وراء تحقيقها، والبحث عن الوصول إليها، ولكن يتفاوت الناس في معرفة حقيقة السعادة، وفي غايتها.
فيرى قوم أنها في جمع المال وتحصيله، وأن هذا هو السعادة، فهو الغاية والمراد، وقوم يرونها في سعة الرزق وكثرة الأولاد، والجاه عند الناس، وعند آخرين أن السعادة في تحصيل الشهوات سواء كانت مما هو مباح، أو مما هو محرم، إلى غير ذلك من حظوظ الدنيا.
والواقع أن هذا كله ليس بشيء وإن حصل في بعضه راحة للنفس في وقت قليل أو زمن قصير، فآلامه ومكدراته ومنغصاته أكثر بكثير. ولكن السعادة الحقيقية هي سعادة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر وهذا لا يحصل إلا بالإيمان بالله، والعمل الصالح.
فالإيمان بالله يملأ القلب محبة لله، وإجلالا له، وتعظيما ورضا بقضائه وقدره، وزهدا في الدنيا، ومعرفة تامة بحقيقتها وأنها دار ممر، وليست بدار مقر، فإذا عرف العبد ذلك تمام المعرفة لم يحزن على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما يحصل له فيها ؛لعلمه بسرعة زوالها، وذهابها، فكدرها لا يدوم، وصفوها لا يدوم، وإما الفرح والاستبشار بطاعة الله ومحبته، كما قال سبحانه:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فهذه هي السعادة، وهي الحياة الطيبة، كما قال سبحانه في وصفها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97].
فهذه السعادة الحقيقية، سعادة الدنيا والآخرة، فلا يحصل للعبد طمأنينة قلب، ولا انشراح صدر إلا بهذا، وهو الإيمان، والعمل الصالح، والتعلق بالله وحده دون من سواه، والمداومة على ذكره وشكره، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28].
وإذا لم يحصل للعبد طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، فمهما كان فيه من النعيم، فإنه منكد عليه بالقلق، ومنغص بضيق الصدر؛لهذا نرى أصحاب المعاصي مهما كانوا فيه من النعيم الدنيوي، فإنهم في نكد، وذل، وضيق، يقول سبحانه:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: 125].
قال بعض السلف في أهل المعاصي: أنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وإن مما يؤسف له أشد الأسف أن كثيرا من الناس اليوم رغبوا عن عز الطاعة، ومالوا إلى ذل المعصية، وعرضوا أنفسهم للبلاء، والعقوبات العاجلة، وحرموا أنفسهم السعادة العاجلة والآجلة، بارتكاب الذنوب، وصرف نعم الله فيما يسخط الله، هانت عليهم أنفسهم، فأهانوها بذل المعصية، ترى كثيرا ممن أنعم الله عليهم بالرزق، والأزواج، والأولاد، والمساكن الطيبة، والمراكب النفيسة، ومع ذلك يتطلعون إلى غير ذلك مما حرم الله عليهم.
فيذهب الكثيرون إلى بعض البلاد المنحطة سلوكاً وأخلاقاً التي لا تعرف معروفاً فتأمر به، ولا تستنكر منكرًا فتنهى عنه، فيها المعاصي جهارًا، وفيها التفسخ الخلقي، والانحلال من مكارم الأخلاق، أو يسافر إلى بعض البلاد الأجنبية، ليطلق لنفسه العنان فيما تهواه، وإن كان فيه ذهاب دينه ودنياه، بطر نعمة الله التي أنعم بها عليه، واحتقرها وارتكب ما نهاه عنه، وعرض نفسه لسخط الله، وعقوبته، ورمى بنفسه في هوة الذل والهوان، وحرم نفسه من عز الطاعة، ورضا الرحمن.
والأدهى من ذلك أن البعض منهم ربما سافر إلى البلاد الأجنبية بنسائه وأولاده، لا لحاجة أو ضرورة، ولكن للترفيه كما يقولون، وما يدري أن هذا الترفيه المزعوم إنما هو درس عملي، وتوجيه فعلي للتشبه بأعداء الله، والإعجاب بهم، والاكتساب من أخلاقهم، وتعظيمهم في النفوس.
فيا له من ترفيه سيء، يعقبه الاستخفاف بالأوامر الإلهية، واستثقال العبادات الشرعية، والتساهل بالمعاصي، وفساد الأخلاق في غالب أحوال هؤلاء الذين يترددون على تلك البلاد لغير حاجة، أو ضرورة، ولكن لمجرد الفسحة، والترفيه، كما يزعمون، فبدلا من تنشئتهم على تعاليم الإسلام، والمحافظة عليها، وتعظيمها في نفوسهم، ينشؤونهم على الاستخفاف بها، والله U يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6].
فاتقوا الله عباد الله. واحذروا من عقابه، واشكروه على ما أولاكم، ولا تعرضوا أنفسكم لزوال نعمه عليكم فقد قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه، وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعته، واحذروا معصيته، فإن للمعاصي عقوبات عاجلة وآجلة، قال بعض العلماء رحمهم الله:إن من عقوبات المعصية سقوط الجاه، والمنزلة، والكرامة، عند الله، وعند خلقه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد تكون منزلته عنده، فإذا عصاه وخالف أمره سقط من قلوب عباده، وإذا لم يبق له جاه عند الخلق، وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش، خامل الذكر، ساقط القدر، زري الحال، لا حرمة له، فلا فرح، ولا سرور، فإن خمول الذكر، وسقوط القدر، والجاه، معه كل غم وهم وحزن، ولا سرور معه ولا فرح، وأين هذا الألم من لذة المعصية لولا سكر الشهوة؟!.
المرفق | الحجم |
---|---|
8ما تحصل به السعادة.doc | 75 كيلوبايت |