الحمد لله عالم الغيب والشهادة، يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، أحمده سبحانه على تكاثر آلائه، وأشكره على ترادف نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله سبحانه مطلع على ما في الضمير، وسيجزي على الصغير والكبير:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة:7- 8].
فإذا علم العبد أن الله جل وعلا سيجازيه على الذرة فما فوقها، فليتق الله ربه، وليسلم وجهه إلى خالقه وبارئه، وليحاسب نفسه، فإن المسلم الحقيقي من أسلم وجهه لله، وراقبه في كل شأن واتقاه، المسلم الحقيقي من سلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يطلق لسانه بالطعن في أعراضهم، أو الكذب عليهم، أو الإفساد بينهم، ولا يمد يده إليهم بالسوء، فلا يسلب أموالهم، ولا يريق دماءهم، ولا يكبت حرياتهم.
إن المسلم الحقيقي من يقيم للدين بنيانه، وللإسلام أركانه، فتراه واقفا عند أوامر ربه، متجنبا ما حرمه في شرعه، المسلم لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يكذب على الله في شرعه، ولا في خبره، ولا أمره ونهيه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الصف:7].
إن المؤمن حقا من إذا ذكر الله وجل قلبه، وخشعت نفسه، وفاضت عينه، وإذا سمع القرآن انشرح صدره، وزاد إيمانه، وعلا يقينه، المؤمن يتخذ المؤمنين أولياءه وأنصاره وأصدقاءه وإخوانه، ولا يوالي من كان على الإسلام حربا، وللمسلمين ضدّا، المؤمن يرضى بحكم الله وقضائه، وحكم رسوله في شجاره وخلافه، أما إذا أعرض العبد عن الله، وعن طاعته، وهجر شرعه وعبادته، وطغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، فأين هو والإسلام إذا طعن في الدين، وتنكر للإسلام، وآذى عباد الله المؤمنين، هل يكون من أهل الإسلام؟
هل يكون مؤمنا من آثر الظلم على العدل، والباطل على الحق، واغتصب حقوق الضعفاء، وأراق دماء الأبرياء، وملأ السجون بالمظلومين، والكثير من البررة المتقين، وفجع المسلمين في شبابهم، وأخذ أموالهم وسلب حريتهم، وفرق أموال المسلمين في تخريبه ومؤامراته، وتفريق كلمة المسلمين، إرضاء لإخوانه أعداء الدين؟!
هل يكون مؤمنًا من أكثر الحرس لنفسه، والأجناد وبث الجواسيس في كل مجتمع وناد؟ وبذل الأموال للخونة اللئام؛ فإذا نقلوا عن مسلم كلمة حق أو نصيحة مشفق، أو نهى عن قبول باطلة أطاح بها رءوسا عديدة، وأزهق بها أرواحا كثيرة، وملأ بالسجون المظلمة، والزنزانات الضيقة، فأيتم أطفالا وأرمل نساء، فيا فرحة أعداء الإسلام من الملحدين بمثل هذا الفعل، ويا حسرة عباد الله المؤمنين به، وهو يتسمى بهم، وينتمي إليهم.
لقد صدق المصطفىr وهو الصادق المصدوق حين يقول عليه أفضل الصلاة والتسليم كما في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (( كان الناس يسألون رسول اللهr عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من الشر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله،صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )).
قال ابن حجر - رحمه الله - قوله: من جلدتنا. أي: من قومنا ومن أهل ألسنتنا وملتنا، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب. وقال غيره: معناه: أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن مخالفون، يتبين هذا الوصف, ويتضح فيمن يتسلط على المسلمين لإسلامهم بالقتل والتعذيب والسجن والتشريد، أو فيمن يطعن جاهدًا في شريعة الله، وفي أركان الإسلام، وفي تعاليمه السامية، ومزاياه الحميدة، ينادى صاحب هذا الوصف على التعريف بنفسه بتهجّمه على المحبين لدعوة ربهم، ونداء خليله لحج بيته الحرام، ومباهاة الله بعباده في ذلك المشهد العظيم، والموقف الشريف ملائكته: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا، أشهدكم إني قد غفرت لهم. وكل أهل الإسلام في فرح وسرور بذلك اليوم، ما عدا الشيطان، فإنه ما رؤي أغيظ ولا أحقر ولا أصغر منه يوم عرفة، لما يرى من تنزل على الرحمة على عباد الله المؤمنين.
إن من تسلط على المؤمنين لإيمانهم، أو تهجم على شرائع الله، ورد سنّة رسول الله r، إنما حمله على ذلك جهله وعناده، وكبره ونفاقه، وإرضاؤه لمن يسؤهم نصرة الإسلام، ونشاط المسلمين في الدعوة إلى الله، إن وجود من يرد سنّة رسوله r، ويتنكر لها، ولا يعمل بها علم من أعلام نبوته r ، ومعجزة من معجزاته، ودليل من دلائل رسالته r، حيث يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه قال: «حرم رسول الله r يوم خيبر أشياء، ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني، وهو متكئ على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ».
وفي رواية أبي داود: « ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ». يعني: وأما ما سوى القرآن من الأحاديث، فلا تقبلوه، فقوله r: « إني أوتيت الكتاب ومثله » أي: ومثل الكتاب معه، وهو الحديث ؛ لأنه وحي من الله. والمماثلة في وجوب العمل والاعتقاد بهما ؛ لأن الحديث إذا سمع من الرسول r أو ثبت عنه، فهوى قطعي يجب العمل به، ولا يجوز الإعراض عنه ؛ لأنه إعراض عن كتاب الله، لقول سبحانه:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ }[الحشر:7]. ويقول سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3،4].
وقد وصف r الرجل الذي يرد سنته بأنه شبعان متكئ على أريكته أي: أنه من أهل الترف والدعة،الذين يتكئون على أسرّتهم من المترفين،أهل التكبر والتجبر، المعرضين عن الاهتمام بأمور الدين، شغلهم الترف والتنعم،وتكبروا على الانقياد لطاعة أنبياء الله ورسله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله ونعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد r، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، واعلموا أن الإيمان ليس بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، اعتقاد جازم بالإيمان بالله، وما له من صفات الكمال، إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وعمل بشرائع الدين، وانقياد لها بانشراح صدر وفرح وسرور:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58].
نطق بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. اعتراف بالتوحيد لله وانقياد له، واعتراف برسالة محمد r الشاملة لجميع الثقلين، والرضا والتسليم بما جاء عنه من حكم وخبر: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[النساء:65].
المرفق | الحجم |
---|---|
5 - ليس الإيمان بالتمني.doc | 78.5 كيلوبايت |