الحمد لله الذي خلق الخلائق فأبدع ما صنع، وشرع الشرائع فأحكم ما شرع، له الخلق والأمر وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه وجزيل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة، وآلائه المتوافرة المتكاثرة، فإن الشكر قيد للنعم، واستجلاب للمزيد من المنن، وسبب لدفع البلاء والنقم، وإن أعظم نعمة وأكبر منة علينا ما هدانا الله إليه من نعمة هذا الدين الحنيف،وهذه الشريعة المباركة، التي بعث الله بها خاتم رسله، رسوله المصطفى ونبيه المرتضى، سيد الأنبياء والمرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، وقد أكمل سبحانه لنا هذا الدين، وأتم به علينا النعمة ورضيه لنا دينًا.
إن دين الإسلام هو الدين الحق،{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس: 32]، وإن أساس دين الإسلام هو توحيد رب العالمين، وإفراده بالعبودية وحده لا شريك له، وتعلق القلوب به سبحانه دون من سواه،{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110].
لقد خلق الله الخلق إنسهم وجنهم لعبادته وحده، يقول سبحانه:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] ومعنى يعبدون أي: يوحدون والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها، فلا ركوع إلا لله، ولا سجود إلا لله، ولا دعاء إلا لله، ولا التجاء إلا إليه، ولا استعانة ولا استغاثة إلا به، ولا اعتماد ولا توكل إلا عليه،
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] إن دعاء الأموات وطلب الحاجات منهم نوع من أنواع الشرك بالله؛ لأن الدعاء هو العبادة، كما أخبر المعصوم r ([1]). فلا يجوز أن يدعى أحد غير الله كما قال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] أي من المشركين، كما قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولما قال رجل للنبي r : ما شاء الله وشئت، قال له رسول الله r: «أجعلتني لله ندًا، بل ما شاء الله وحده»([2]). فالله سبحانه أمر بدعائه وحده، فقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فقصر الدعاء عليه وحده، وسماه عبادة بقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60] وأخبر سبحانه أنَّ كل من دُعي من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه ولا لأحد نفعًا ولا ضرًا، وأنه لا يسمع دعاء من دعاه، ولو سمع ما استطاع أن يستجيب لعابده وداعيه، وأنه يوم القيامة يتبرأ منه ويعاديه، يقول U: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، فسمى الله دعاء غيره شركًا بقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ .
إن أهم واجبات الدين بعد تحقيق التوحيد لله وحده هي هذه الصلاة التي هي صلةٌ بين العبد وبين ربه، وهي عماد الدين يقول عليه الصلاة والسلام: (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )) ([3])، ثم يليها الزكاة التي هي قرينة الصلاة،{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 5].
وإن الصيام ركن من أركان ديننا، وقد خصه الله بمزيد من الأجر والثواب، كما في الحديث القدسي: « الصوم لي وأنا أجزي به » ([4]).
وإن حج هذا البيت العتيق ركن من أركان دين الإسلام، أمر الله به، وكتبه على كل مسلم مستطيع إليه سبيلا، أوجبه على عباده المؤمنين لما لهم فيه من المنافع العظيمة والفوائد الجسيمة، وكل ركن من أركان ديننا الحنيف له من الحكم العظيمة مالا يحصيه خطيب ببيانه، ولا كاتب ببنانه.
فالصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وتوجب له الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، لما تشتمل عليه من الدعاء، والالتجاء إليه سبحانه بطلب الهداية والتوفيق إلى صراطه المستقيم، الذي لا يضل سالكه، تعصمه من الزلل، وتوصله إلى أسمى الغايات، {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
وإن الزكاة إصلاح للنفوس وتزكية لها، وتهذيب للأخلاق وتطهير لها،{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
[التوبة: 103].
وإن في الصوم ترويضًا للنفوس والأبدان، وتعويدًا لها على الصبر والتحمل، وتسموا به عن درجة البهائم والحيوانات.
أما الحج فقد شرعه الله لمنافع عديدة، ومصالح مشتركة، تتجدد كل عام، مصالح دين ودنيا، زيادة على ما يشتمل عليه من هذه المناسك التي هي مظهر من مظاهر التعبد لله، والاستسلام له، والامتثال لأوامره وتعاليمه، سواء منها ما عقلت حكمته، أو مما لا تدركها عقولنا القاصرة . إن فيها رمزًا للحنيفية السمحة، ملة إبراهيم، إمام الحنفاء، الذي أمرنا باتباع أثره، والاقتداء به، الذي تبرأ من جميع المعبودين سوى الله وحده { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27].
إن في الحج اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا، في مكان واحد، في زي واحد، قبلتهم واحدة، ورسولهم واحد، متجهين بأرواحهم وأشباحهم إلى رب واحد، يرجون فضله وإحسانه، ويؤملون رفده ورضوانه.
عندما ينظر المسلم في هذه المواقف الشريفة وهذه المشاعر المقدسة، فينظر أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يرى أخاه العربي، وأخاه الأعجمي، بمختلف ألوانهم ولغاتهم، وتعدد لهجاتهم، واختلاف أوطانهم، جمعهم في هذه المواقف الشريفة دينهم ووحدتهم، عندها يتذكر المسلم فائدة التضامن، والتكاتف، والاتحاد ضد كل من يريد أن يفرق صفوف المسلمين، ويشتت وحدتهم، أو يتدخل بينهم بالتحريش وإثارة الفتن، وتفريق كلمتهم، ووحدتهم الإسلامية وأخوتهم الإيمانية، التي عقدها الله بينهم في محكم كتابه، وعقدها رسوله r في صحيح سنته.
فتمسكوا عباد الله بكتاب ربكم، وسنة نبيكم، تفلحوا، وتسعدوا في دينكم ودنياكم.
إن المسلمين إذا لم يتمسكوا بحقيقة دينهم وصحيح عقيدتهم ويجتمعوا على الحق، فإن الباطل سيفرقهم، وإذا لم يتضامنوا على جمع كلمتهم ونصر دينهم، فإن أعداءهم سيتكالبون عليهم، مستغلين تفرقهم، ويتداعون عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، كما ورد بذلك الحديث الصحيح. فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بدينكم، وأصلحوا ذات بينكم، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 102، 103].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) رواه أبو داود في كتاب الصلاة برقم (1479)، وابن ماجة في كتاب الدعاء برقم (3828).
([2]) رواه أحمد في مسنده (1/214).
([3]) رواه الترمذي في كتاب الإيمان رقم (2621)، والنسائي في كتاب الصلاة رقم (463).
([4]) رواه البخاري في الصوم (1894)،ومسلم في الصيام برقم (1151).
المرفق | الحجم |
---|---|
6 - إخلاص العمل لله وحده.doc | 77 كيلوبايت |