الحمد لله الذي نور بهدايته قلوب العارفين، وأقام على الصراط المستقيم أقدام السالكين، وهداهم إلى نوره المبين، وأنزل كتابه هدى للمتقين، له الحمد، وله الفضل والإحسان، وهو الإله الحق المبين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، فإياه نعبد، وإياه نستعين. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى خلفائه الراشدين، وعلى العمين العلمين، والسبطين الشهيدين، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله -تعالى- بلزوم طاعته، وطاعة رسوله؛ وذلك بتصديقه r بجميع ما به أخبر، وامتثال ما به أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، فمن فعل ذلك فقد استقام على الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى الله وإلى جنات النعيم، فقد أمركم الله بسلوك هذا الصراط والاستقامة عليه بقوله-جل وعلا-:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
وإن أعظم الواجبات يا عباد الله إخلاص العمل له وحده، لا شريك له، وإفراده بالعبادة، فكما أنه لا رب سواه ولا خالق ولا رازق إلا هو، فليس للعباد إله ومعبود إلا الله، فمن أخلص له الدين في ظاهره وباطنه فهو الموحد حقا، ومن صرف شيئًا من العبادة لغيره فهو المشرك، والله-سبحانه-يقول: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة: 72].
فادعوه مخلصين له الدين، فليس لنا معبود سواه، فلا نستعين إلا به، ولا نعبد إلا إياه فهو الإله المقصود بالتأله، والحب والتعظيم، وهو المدعو والمرجو والمقصود لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات.
واعلموا أن الدعاء مخ العبادة، وهو خالص حقه سبحانه، يقول-تعالى-:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل: 62].
فمن دعا أحدا غير الله كائنا من كان؛ فقد اتخذه إلهًا مع الله، تعالى الله عما يشركون، يقول-جل وعلا-:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14].
أيها المسلم: إن أهم شيء بعد التوحيد هذه الصلاة المفروضة، فأدها كما أمرت بها كاملة؛ بخشوعها وطمأنينتها وجميع أركانها:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1، 2].
ثم يليها في الأهمية الزكاة والصيام والحج كما بين ذلك لنا كتاب الله وسنة نبيه r. وإن تحكيم شريعة الله ونبذ ما سواها من القوانين لمن أوجب الواجبات وأهم المهمات في الدين. يقول سبحانه : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة: 45].
عباد الله: إن في شريعة الإسلام وتحكيمها صلاح المجتمعات، وهي العدالة الحقة، وهي التي لا جور ولا ظلم فيها، وما ضاقت عن بيان حكم أي مسألة من مسائل شئون الحياة البشرية، ولا وقفت في سبيل مصلحة أو عدالة، بل هي التي تضمنت كل مصلحة أو عدالة، إنها وسعت مصالح الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وأزمانهم.
لقد كانت الدولة الإسلامية في عصورها الأولى تمتد رقعتها من بلاد الصين شرقا إلى المغرب الأقصى غربا، وكانت راية الإسلام تخفق على جميع ممالكها المختلفة، التي تضم أجناسا متباينة من البشر متباينة في الأجناس والعبادات والعادات؛ ما بين عربي وفارسي ورومي وإفريقي، وقد نظمت الشريعة بدولتها الإسلامية شئون هذه الأمم والشعوب على أحسن نظام وأدقه وأعدله، ولم تحتج يومًا من الأيام أن تستعين أو تستمد قانونًا أو تشريعًا من غيرها، بل كلما فتح الله للمسلمين بلادًا، أو أقاليم أو استجد فيها أشياء لم تعهد قبل ذلك، أوجد علماء الشريعة باجتهاداتهم واستنباطاتهم من الكتاب والسنة ما يحل جميع مشاكلهم، ولم يقصروا عن تحقيق مصلحة، ولم يصطدموا مع أية وسيلة تهدف إلى غرض سام يحقق مصلحة عامة خالية من الجور والظلم.
لقد عاش مع المسلمين وتحت ظلهم أناس لم يدينوا بالإسلام، وشملهم عدله في هذه الحياة، ولم يظلمهم، ولم يهضم حقهم الذي فرضته شريعة الإسلام لهم، لقد قال عن الإسلام أحد هؤلاء الذين لم يدينوا به: «إن الإسلام يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة، فهو يستطيع أن يتطور دون أن يتضاءل في خلال القرون، ويبقى محتفظا بكامل ماله من قوة الحياة والمرونة، فهو الذي أعطى للعالم أرسخ الشرائع ثباتا، وفاق في تفاصيل شرائعه جميع النظم».
إننا لسنا في حاجة إلى شهادة هؤلاء، فالحق واضح، ولكن كما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء. إن الذين يتهربون من تحكيم الشريعة، وهم يتسمون بالإسلام إنما منعهم الظلم وإنفاذ رغباتهم، ولو تكلموا بالحقيقة والواقع؛ لأنصفوا ولكن منعهم من الإنصاف حب العلو والتجبر والتسلط على الخلق.
إن شريعة الإسلام لا تصلح لمريدي الفساد في الأرض، ولا لذوي الأهواء، إن الدين لا يوافق الأهواء، ولا يساير الشهوات. يقول-سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. الشريعة توقف كل شخص عند حده، وتربط الإنسان برابطة العدل والمساواة، لا فرق بين عربي ولا أعجمي، وأسود ولا أبيض. إن الدين الإسلامي يربط العبد بخالقه وحده؛ ولهذا لا يقبله ولا يرضاه المتجبرون، ولا الذين يجعلون لأنفسهم منزلة فوق منزلة الخلق؛ يستعبدون الناس ويذلونهم، لأن الدين يسلب نفوذهم، ويحول دون أهوائهم ورغباتهم، ويوقفهم عند حدهم، ولذلك قال الكفار لرسول الله r لما رأوا أن القرآن منعهم من التطاول على الناس ومنعهم من السيطرة عليهم:{ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ }[يونس: 15] فقال الله ردًّا عليهم: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدى سيد المرسلين. أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب هدى ورحمة للمؤمنين، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد : فقد قال الله U : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57].
إنها الموعظة الحقة، والنذارة الصادقة التي تعظكم، وتنذركم عن الأعمال التي توجب سخط الله، إنها موعظة الله بهذا القرآن العظيم الذي هو شفاء لما في الصدور؛ شفاء من أمراض الشبهات والشهوات، بما اشتمل عليه من البراهين والأدلة، التي بينها الله أحسن بيان، وصرفها غاية التصريف، مما يزيل الشبهة عن الحق، ويصل بالقلب إلى درجة اليقين، وبما احتوى عليه من المواعظ المؤثرة، والترغيب والترهيب والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الخشية والخشوع، فإذا اتصف بذلك حصل له الغبطة والسرور والفرح والاستبشار: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58].
فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كتاب ربكم تفلحوا، وتفهموا سنة نبيه تربحوا.
المرفق | الحجم |
---|---|
9 - وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية.doc | 74.5 كيلوبايت |