الحمد لله الذي أتم الدين وأكمله، ومَنَّ علينا باتباع محمد خير خلقه وأفضل رسله، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه، وأساله أن يدفع عنا أسباب سخطه ونقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد، الله، اتقوا الله حق تقاته،{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. واعلموا أن أفضل العمل ما كان موافقا لكتاب الله وسنة رسوله المصطفى r، فإن في اتباع هديه الفلاح والسعادة، وفي مخالفته الشقاوة والضلالة.
إن الله بعث رسوله وخليله محمدًا r رحمة للعالمين، وهدى لجميع الثقلين، أرسله بكل علم نافع، علم به بعد الجهالة، وهدى به من الضلالة، وما بقي من أصول الدين وفروعه شيء إلا بينه، ولا قاعدة من قواعد الشريعة إلا أوضحها، فالعلم الصحيح ما قام عليه الدليل، والنافع من العلوم والمعارف ما جاء به الرسول، شريعته الكاملة هيمنت على جميع الشرائع السابقة وتممتها، وسنته أوضحت أمور الدين والدنيا وبينتها، فهي الغاية في العدل والحسن: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ولقد أمرنا عليه الصلاة والسلام باتباع هديه وسنته، وحذرنا من كل ما يخالف هديه وطريقته، فقال عليه الصلاة والسلام: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ». وقال عليه السلام: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ».
فيجب على المسلم أن يتحرى في عبادته وعمله اتباع السنة، والاقتداء بهدى النبي الأعظم وصحابته الكرام، وإن قليل العمل مع السنة خير من كثيره مع البدعة، وإن مما أحدث الناس من الأمور التي ليس لها أصل في الشريعة ما يعتقده كثير منهم، من فضيلة العمل في هذا الشهر شهر رجب، وزعمهم أن العمل فيه أفضل من غيره، وأن له خصوصية عمل امتاز بها على بقية الشهور، فتخصيص هذا الشهر بصوم من بين سائر الشهور أو بقيام لياليه، أو بعضها كليلة معينة، أو تخصيصها بشيء من العبادة أمر محدث، فإنه لم يثبت فيه عن رسول الله r شيء من الأحاديث ولا عن أحد من أصحابه، ولا نقل عن أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا عن غيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - في تخصيص هذا الشهر أو يوم معين أو ليلة معينة منه شيء من العبادات؛ بل قد جاء عن أمير المؤمنين عمر t كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول: « كلوا فإنما هو شهر يعظمه أهل الجاهلية ».
وأما ما يذكر في بعض الكتب من الأحاديث في فضله وتعظيمه؛ فهي إما ضعيفة جدا، أو موضوعة على النبيr، كما قرر ذلك العلماء، رحمهم الله، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة حديث صحيح يصلح للحجة» .
وقال رحمه الله: «وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ. وكذلك رويناه عن غيره» .
وقال الإمام النووي رحمه الله: « لم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب».
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :« كل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليال فيه فهو كذب مفترى» .
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: «ولم يرد في رجب على الخصوص سنة صحيحة، ولا حسنة، ولا ضعيفة ضعفًا خفيفًا؛ بل جميع ما روي فيه علي الخصوص إما موضوع مكذوب، وإما ضعيف شديد الضعف. وأما كون النبيrأسرى به في شهر رجب فالإسراء ثابت بنص القرآن والسنة ومن المعلوم بالضرورة عند جميع المسلمين، ولا ينكره مؤمن» .
وقد اختلف في أي شهر أسري به r، فقيل: في سبع وعشرين من رجب، وقيل: في سبعة عشر من رمضان، وقيل: شهر ربيع الأول.
ولو تعين كونه في رجب أو في غير رجب فلا يلزم من ذلك تعظيمه، ولا تخصيصه بشيء من العبادات إلا بأمر الرسولr، فإذا كان الرسول لا يعظمه ولم يأمر بتعظيمه ولا أحد من أصحابة فلا ينبغي لنا أن نفعل شيئًا على وجه العبادة والطاعة لم يشرعه لناr، ولا فعله الخلفاء الراشدون المهديون من بعده. وعلينا أن نكثر العبادة لله في رجب وفي غير رجب، ولا نخص وقتا دون سواه إلا ما خصه رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم.
فاتقوا الله، عباد الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
المرفق | الحجم |
---|---|
18 - حول شهر رجب وما جاء فيه.doc | 68 كيلوبايت |