الحمد لله الذي أنار السبيل، وأوضح الدليل، وفق من شاء إلى الصراط المستقيم، والطريق القويم، أحمده سبحانه وأشكره على إحسانه العميم، ومنه القديم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من عذاب الجحيم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، والزموا طاعته، وامتثلوا أمره، وتمسكوا بسنة نبيكم وأطيعوه، واتبعوا هديه، فقد أمركم سبحانه بذلك في محكم كتابه: يقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
فطاعة الله سبحانه عبادته، وامتثال أمره في جميع ما أمر به، والانتهاء عن جميع ما نهى عنه، وطاعة رسوله امتثال أمره، والعمل بشرعه، والاهتداء بهديه، والرضا والتسليم له في حكمه، وفي أمره ونهيه، والتصديق بكل ما جاء به، صلوات الله وسلامه عليه، والبعد كل البعد عن المحدثات في الدين، أو الزيادة على ما شرعه الله ورسوله، أو النقص فيه، أو تقييده بشيء لم يقيده رسول الله r، فإن ذلك يعتبر استدراكًا عليه r، واتهامًا له بالتقصير، ومخالفة لأمره، والله U يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
قال بعض الأئمة -رحمهم الله-: أتدري ما الفتنة، لعله إذا رد شيئًا من أمره أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وأما أولو الأمر الذين ذكر الله وجوب طاعتهم في هذه الآية الكريمة، فقد قال أكثر المحققين من العلماء، وأئمة التفسير، كالإمام ابن جرير، وابن كثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم: إن المراد بهم أولي الأمر من الولاة، والعلماء، أهل الحل والعقد، والأمر والنهي.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة الموضحة لذلك، والمبينة للمراد من الآية الكريمة.
فمنها: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي r قال: (( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )) ([1]).
وعنه t قال: سمعت رسول الله r يقول: « من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » رواه مسلم ([2]).
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » رواه البخاري ([3]).
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني،ومن يعص الأمير فقد عصاني » رواه البخاري ومسلم([4]).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: « كنا مع رسول الله r في سفر فنزلنا منزلًا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى رسول الله r : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله r فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل الله عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنه فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر » رواه مسلم في صحيحه([5]).
ومن كلام أهل العلم على هذه الأحاديث وما في معناها ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم، واجب على الإنسان، وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما تجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج البيت، وغير ذلك مما أمر الله به رسوله من الطاعة فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم.
فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله، فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال، فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق )) هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولا شك أن من طاعة أولي الأمر امتثال أوامر من يولونه على أمر من أمور المسلمين، فمصالح المسلمين اليوم وقبل اليوم اقتضت إحداث إدارات، ومؤسسات، ودواوين،تخدم المسلمين، وترعى شؤونهم، وهذه لابد لها من ضوابط وحدود، لكي تخدم عموم المسلمين، وتنظم أمور حياتهم،
فالمسلم مأمور بأن يلتزم بكل ذلك، وطاعة هؤلاء الولاة، ورؤساء هذه المصالح، إنما هي من طاعة ولي الأمر، التي أمر الله بها، فهي واجبة شرعًا، ما دام أمرهم يتم في حدود ما كلفوا به من عمل، ولا يخالف المنهج الإسلامي القويم، فولي الأمر مطلوب منه أن يتوخى المصلحة العامة لرعيته، وعلى المرعى عليه أن يلتزم بالسمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية، وهذا أمر عام لكل فرد من أفراد الرعية، عليه واجبات وحقوق يجب القيام بها على وجهها. كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: « كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، فكلكم راع، ومسئول عن رعيته » ([6]).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: 59].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وعليكم باتباع كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وهدي سلفكم الصالح، والعمل بتوجيهاته، ووصاياه r لأمته، فإنه الناصح الأمين، لا خير إلا دلّ الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه.
ولقد كان من توجيهاته ونصحه r ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن تميم الداري t أن النبي r قال: « الدين النصيحة » ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » ([7]).
فالنصيحة لله تعالى: توحيده، ووصفه بصفات الكمال والجلال، وتنزيهه عما يضادها، ويخالفها، وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته، ومحابه بوصف الإخلاص، والحب فيه، والبغض فيه، وجهاد من كفر به.
والنصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه، وتفهم معانيه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف عند أوامره ونواهيه، وتدبر آياته، والذب عنه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
والنصيحة لرسوله r : الإيمان به، وبما جاء به، وتوقيره، وتبجيله، والتمسك بطاعته، وإحياء سنته، ونشر علومها، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه.
والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولين، وحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهية افتراق الأمة عليهم، والتحذير من ذلك، والتدين بطاعتهم في طاعة الله U، وحب إعزازهم في طاعة الله، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح ما أقاموا شرع الله، ونفذوا حدوده، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان؛ لأن بصلاحه تصلح الرعية، وبفساده تفسد.
والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر .
عباد الله: هذه توجيهات الناصح الأمين، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
([1]) رواه البخاري في كتاب الأحكام، رقم (7144) ورواه مسلم في كتاب الإمارة، رقم (1839).
([2]) رواه مسلم في كتاب الإمارة رقم (1851).
([3]) رواه البخاري في كتاب الأحكام رقم (7142).
([4]) رواه البخاري في كتاب الأحكام رقم (7137)، ومسلم في كتاب الإمارة رقم (1835).
([5]) رواه مسلم في كتاب الإمارة رقم (1844).
([6]) رواه البخاري في كتاب الوصايا، رقم (2751) ومسلم في كتاب الإمارة رقم (1829).
([7]) رواه مسلم في كتاب الإيمان رقم (82).
المرفق | الحجم |
---|---|
19 - طاعة ولي الأمر.doc | 81 كيلوبايت |