الحمد لله ذي الإنعام والإحسان، والفضل والجود والامتنان، أحمده سبحانه على نعمه المترادفة، وآلائه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته، وامتثلوا أوامر ربكم تفلحوا، واهتدوا بهدي نبيكم تربحوا، واعلموا عباد الله أن الله جل جلاله أمركم بعبادته وحده لا شريك له، وقد خلقكم من أجلها، كما قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، فالحكمة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي عبادته وحده، أي إفراده بالعبادة، فمن عبد مع الله إلهًا غيره، فقد أشرك بالله، ومن أشرك بالله فقد حبط عمله، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فالعبادة خالص حقه سبحانه، فلا سجود إلا لله، ولا ركوع إلا لله، ولا ذل ولا خضوع، ولا دعاء، ولا نذر إلا له وحده، ولا استعانة ولا استغاثة إلا به سبحانه، فحافظوا عباد الله على إخلاص العبادة لله وحده، وأدوا ما أمركم الله به من طاعته، واجتنبوا ما نهاكم عنه.
وإن من أعظم ما أمركم الله به بعد أداء حقه سبحانه حقوق الوالدين، والبر بهما، والإحسان إليهما، والتلطف بهما، وإن من أعظم ما نهاكم عنه عقوقهما، وعدم احترامهما والتأفف من خدمتهما.
ولقد أمر سبحانه ببر الوالدين في عدة آيات من كتابه، وقرن حقهما بأعظم الحقوق على الإطلاق، وهو حقه سبحانه، فقال U:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23، 24].
وهكذا في عدة آيات من القرآن الكريم يأمر سبحانه ببر الوالدين بعد الأمر بالقيام بحقه، وإخلاص العبادة له، اهتمامًا بحقهما، وبيانًا لعظيم قدرهما، ولا شك أن البر بالوالدين وطاعتهما من طاعة الله ، وعقوقهما ومعصيتهما من معصية الله ، ما لم يأمرا بمعصية في معصية الخالق.
إن البر بالوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما دليل على الإيمان، وعلى حسن الوفاء، ومجازاة الإحسان بالإحسان، ودليل على كرم النفس وحسن الخلق، كما أن عقوقهما دليل على اللؤم وإنكار الجميل،وعدم الوفاء، وعدم مراعاة سابق الإحسان، وقد سبحانه:
{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60] فكيف بمن قابل الإحسان بالإساءة، ولم يحسن إلى من أحسن إليه طول حياته، وفي حال العجز عن القيام بشيء من أموره وشؤون نفسه، ويكفر نعمة والديه، وينكر الجميل منهما عليه، فإن هذا ليس من شأن أهل الوفاء ولا من طبيعة العقلاء، ولا من أخلاق الكرماء، وإنما هو من صنيع اللؤماء، وذي الحماقة والجهالة، فكيف إذا كان ذلك معصية لله ومخالفة لأمره، وهو يقول U :{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
ولقد وصى الناصح الأمين والنبي الكريم r ببر الوالدين وحث عليه، ورغب فيه، وبَيَّنَ ما يترتب على ذلك من الأجر العظيم والثواب الجسيم، وكذلك نهى r عن عقوقهما، وحذر منه، وبَيَّنَ ما يترتب على ذلك من ثواب وعقاب دنيوي وأخروي، فقال r : « رضا الله في رضا الوالد، وسخطه في سخط الوالد » رواه الترمذي وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم([1]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله r فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال رسول الله r : « فهل لك من والديك أحد حي » . قال: بل كلاهما حي، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: « ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما » رواه مسلم وغيره([2]).
ولأبي داود قال: جاء رجل إلى رسول الله r : فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال: « ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما » ([3]).
وعن أنس t قال: قال رسول الله r : « من سره أن يمد له في عمره، ويزاد له في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه » رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح([4]).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه » قيل: من يا رسول الله ؟ قال: « من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة » ([5]).
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بما أوجب الله عليكم من طاعته وعبادته، وامتثلوا أمره ببر الوالدين، والإحسان إليهما، والقيام بخدمتهما، ردًا للجميل، وشكرًا للإحسان، وأداء لطاعة الرحمن، فإن رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين.
أيها المسلم: إن كان والداك حيين أو أحدهما فاشكر الله على هذه النعمة التي مكنك الله من القيام ببرهما، ورد بعض معروفهما عليك،
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 24] وأحسن إليهما وبربهما، وأدخل السرور عليهما ما استطعت ليبارك الله لك في عمرك وولدك، ورزقك في دنياك، ولتحصل لك السعادة في أخراك، ولاسيما البر بالوالدة الحنون، والأم العطوف، فإن حقها آكد، والعطف عليها أوجب، وهي صاحبة الإحسان الكبير، والخدمة الطويلة، والشفقة العظيمة، كم سهرت الليالي الطوال من أجلك!! وكم أتعبت جسمها لراحتك!!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15، 16].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) رواه الترمذي في البر والصلة، برقم(1900) وصححه ابن حبان (2026) والحاكم(4/151-152).
([2]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2549).
([3]) رواه أبو داود في كتاب الجهاد رقم (2528).
([4]) رواه أحمد في مسنده (3/266)
([5]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2551).
المرفق | الحجم |
---|---|
4البر بالوالدين.doc | 75.5 كيلوبايت |