الحمد لله الملك الحق المبين، أحمده سبحانه حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اصطفاه رب العالمين، وأنزل عليه: { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الروم: 38] . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل البر والوفا، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وراقبوه، وامتثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه، وتذكروا نعمه عليكم التي لا يحصى لها تعداد، وقوموا بأداء ما افترضه عليكم، وتدبروا كتاب ربكم، فقد حثكم سـبحانه على تقواه، فقال U: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. يأمر سبحانه بأن تتقوه؛ تتقوه في جميع أحوالكم وأعمالكم. تتقوه بأداء أماناتكم، وما استرعيتم عليه، تتقوه فيما بينكم وبين أقاربكم وأرحامكم فيما بينكم وبين أولادكم وأهليكم ، تتقوه فيما بينكم وبين نفوسكم، تتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، فهو الذي خلقكم ورباكم، وهو المستحق للعبادة وحده، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، أهل لأن يتقى ويخاف. {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]. بهذا ينبه سبحانه أنه يجب على المؤمنين التعاطف والتآلف والتراحم بينهم، لأن أصلهم واحد، فلا ينبغي أن يترفع أحد على أحد، ولا يفخر ولا يتعاظم عليه، لنسبه وجاهه أو ماله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13] وإن للقرابة حقا أوجبه الله يجب مراعاته، والقيام به، ومن كان أقرب فحقه ألزم وأوجب، فآكد حقوق القرابة حق الوالدين فهما أحق بالبر والإحسان واللطف والإكرام، ثم الأقرب فالأقرب؛ كل على قدر قرابته وقربه منك.
عباد الله: إن صلة الرحم مما أمر به القرآن، وحث عليه سيد الأنام، والاتصاف بها من محاسن الإسلام، فقد وعد الله بأن يصل من وصل رحمه، ووعده على لسان نبيه r أن يبسط له في رزقه، وأن يطيل عمره، ففي الحديث عنه r أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله، فليصل رحمه ».
إن صلة الرحم سبب لسعة الرزق، وطول العمر، مع الثواب الآجل المدخر لصاحبه يوم القيامة، وروى عن علي t عن النبي r أنه قال: « من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه ». وروي عن أنس t عن النبي r سمعه يقول: « إن الصدقة، وصلة الرحم، يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء، ويدفع بهما المكروه والمحذور» .
إن صلة الرحم من الأعمال الجليلة التي رغب فيها القرآن، وحث عليها، ورغب فيها الرسول الكريم r ؛ لقد قال الله U : {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } [الإسراء: 26]، وقال عليه السلام: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخرة فليصل رحمه » .
عباد الله: إن صلة الرحم تضاعف ويعظم أجرها مع القطعية، قال رسول الله r: « ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها » . وروى عنه r أنه قال: « إن أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك » . وروى عنه أيضا r أنه قال : « ألا أدلكم على ما يرفع به الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطى من حرمك، وتصل من قطعك » .
فاحذروا عباد الله من قطيعة الرحم؛ فإنها شؤم وخسران في الدنيا وعقوبة وعذاب في الآخرة، إنها سبب للعنة الله والإعراض عن الحق؛ يقول الله U: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22، 23] إن قاطع الرحم عرض نفسه للحرمان العظيم والوعيد الشديد؛ لقد قال r : « لا يدخل الجنة قاطع رحم » .
وروى عنه r أنه قال: « إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم » . وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا بعد الصبح في حلقة، فقال: «أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة - أي: مغلقة - دون قاطع رحم » .
فحذار حذار عباد الله من قطيعة الرحم، واعلموا أن لصلة الرحم حدودا، فهي فيما يعود على الأقارب بالنفع في دينهم ودنياهم في حدود الشرع، أما مناصرتهم على الباطل، وعدم ردعهم عن غيهم وفسادهم فإن هذا لا يعتبر من الصلة وإنما هو حمية الجاهلية وأعمالها، وقد ذم الله المتصفين بها بقوله: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله العظيم السلطان، الكريم المنان، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صاحب الإحسان، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار.
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله – عز وجل - فإن تقواه جنة من عذابه، وهي الموصلة إلى مغفرته ومرضاته، واعلموا أن صلة الرحم من أفضل الأعمال، ومن أكبر الأسباب لسعادة الدين والدنيا، والفوز برضا الله، سبحانه، والحصول على كرامته وجنته، وإن قطيعة الرحم سبب من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأسباب للتعرض لسخط الله وأليم عذابه. روى البخاري ومسلم عن أبي أيوب t: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال النبي r : تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصل الرحم » .
المرفق | الحجم |
---|---|
5صلة الرحم.doc | 72.5 كيلوبايت |