الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا عباد الله، أن الله سبحانه أمر عباده باتباع ما شرعه لهم،مما فيه مصلحتهم في عاجل أمورهم وأجلها،ومما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم، ومن ذلك أمره جل وعلا بالبر بالوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء، والأيتام، والمساكين، والمحاويج، وفك أسر المأسورين، والتجاوز عن المعسرين، ومساعدة المعوزين، كل هذا أمر به سبحانه، لما يترتب عليه من صلاح المجتمع، والتكافل بين المسلمين، وحصول الطمأنينة بينهم، والوئام والمحبة.{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}[النحل:90] .
وإن من أهم ما أمر الله به سبحانه: صلة الرحم، التي أمر بها في محكم كتابه، وحث عليها رسوله r في صحيح سنته .
فإن صلة الرحم من أفضل القربات، وثوابها من أعظم المثوبات، جعلها الله مفتاحًا لكل خير، ومغلاقًا لكل شر، وجعل ثوابها معجلًا في الدنيا، مدخرًا في الأخرى، كما جعل عقوبة قاطع الرحم معجلة في الدنيا، وسببًا للعنة الله وغضبه، وعمى البصيرة .
يقول الله عز وجل:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }[محمد:22-23] فلقد تضمنت هذه الآية الكريمة، وعيد الله الشديد لقاطع الرحم بالعذاب الأليم، وجعله في زمرة من لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم، فقاطع الرحم لا يسمع ما فيه رشده، ولا يرى ما فيه خيره ونفعه؛ لأن الله أصمه، وأعمى بصره، فأعرض عن أمر ربه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فحرم قاطع الرحم من الرحمة والشفقة التي تحمل على العطف والإحسان على ذوي القربى، واتصف بالغلظة والقساوة والجفاء، وابتعد عن رحمة الله، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
والرحمة خصلة كريمة، وصفة عالية، يتحلى بها المؤمنون، ويتصف بها المتقون ؛ لأن فيه امتثالًا لأمر الله ورضاه، والتعرض لرحمته وهداه .
وأولى الناس بالرحمة والشفقة هو الأقربون، الذين تجمعهم وتربطهم بك رابطة القرابة، ويتأكد حق كل واحد حسب قرابته منك، وحاجته إليك، فهؤلاء أحق الناس بالرعاية، وأجدرهم بالعناية والحماية، وصلتهم إنما تكون بالملاطفة، والمودة، والرحمة، والدفاع عنهم، وعن أعراضهم، والذود عن حماهم، وتفريج همومهم، وكشف غمومهم، وقضاء حاجاتهم، ومد يد العون إليهم إن كانوا معوزين، والتفقد لأحوالهم .
فصلة الرحم نتائجها محمودة . وعاقبتها بالسعادة مقرونة، وكلما زادت المودة بين المرء وأقاربه كان الترابط بينهم أقوى، وصاروا عونًا له، يشدون أزره، ويقوون ظهره، ويعينونه على أمره، وكان الخير له من الله أسرع، فقد روي عن أنس t كما في الصحيحين أن رسول الله r قال: (( من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه )) ([1]). ومعنى ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله وعمره .
فصلة الرحم أيها المسلم عدة لك عند النوازل، ودرع يقيك من المكروه لدى النوائب والغوائل . إنك بالتودد إلى أقاربك تكسب محبتهم، ومودتهم، وبالإحسان إليهم تنال رضا الله ورضاهم، وتحصل لك البركة في عمرك، ويبارك الله لك في مالك وولدك، وتحمد سيرتك، ويطيب ذكرك، ويكون لك لسان صدق في الآخرين .
في الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r « إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله r: اقرؤوا إن شئتم{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد:22-23] ، وفي لفظ للبخاري: فقال الله تعالى: « من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته» ([2]).
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم، تبر أعمالكم، وتصلح دنياكم وأخراكم، ويبارك لكم في أعماركم، ويوسع لكم في أرزاقكم، فقد أمركم الله بصلة الرحم، وحذركم من القطيعة، بقوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] .
فلا تكونوا لأمره تاركين، ولا لنهيه مرتكبين، لتفوزوا بالنعيم المقيم، فإن القرآن الكريم قد هدد الذين يقطعون أرحامهم بالوعيد الشديد، والطرد من رحمة الله، والاتصاف بالخزي والهوان . يقول سبحانه:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25] .
أجارنا الله وإياكم من سخطه وعقابه، وأمننا من غضبه وأليم عقابه، ونفعنا بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه بأقوالكم وأفعالكم، اتقوه بامتثال أمره، واجتناب نهيه، واعلموا عباد الله أن صلة الرحم من خير الخصال، وأشرف الخلال، وأفضل الأعمال، فيها طاعة الله، وطاعة رسوله، وفيها أن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وفيها بركة الأعمار، وسعة الرزق والبركة في الأولاد .
وإن أفضل أنواع البر والصلة أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتحلم عمن جهل عليك، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي r أنه قال: « ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» ([3]).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة t أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي قرابة، أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال رسول الله r: (( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك )) ([4]).
عباد الله: إنه لا يصل أحد إلى هذه الفضيلة، وهذه الدرجة الرفيعة إلا بالصبر، وكظم الغيظ، والحلم، والتحمل لما قد يصدر من بعض الأقارب من جفاء، أو إيذاء، فإذا استمر على صلتهم مع أذيتهم له فإن ذلك دليل على قوة العزيمة، والاتصاف بالصبر، يقول سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:43] ويقول سبحانه:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، رقم (5985)، ومسلم في كتاب البر والصلة رقم (2557) .
([2]) رواه البخاري في كتاب الأدب، رقم (5987)، ومسلم في كتاب البر والصلة رقم (2554) .
([3]) رواه البخاري في كتاب الأدب، رقم (5991) .
([4]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة رقم (2558) .
المرفق | الحجم |
---|---|
6صلة الرحم.doc | 77.5 كيلوبايت |