الحمد الله الذي أمر بالوفاء بالعقود، ونهى عن نقض المواثيق والعهود، أحمده سبحانه على نعمة الإسلام، وأشكره على ما من به من بيان الأحكام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وبعثه ليتمم به مكارم الأخلاق، اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، أزكى البرية محتدا، وأوفاهم موعدا، وعلى آله وصحبه أهل البر والوفا، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله -تعالى-حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا عباد الله أن الله I أمركم بالوفاء بالعقود، والصدق في الوعود، فقال سبحانه: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}الإسراء:34]. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
ومدح أقواما صدقوا في وعدهم، ووفوا بعهدهم، فقال سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]. وقال سبحانه:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ }[الرعد:20]. وأثنى على أنبيائه بصدق الوعد ووصفهم به كما وصفهم بالنبوة والرسالة فقال سبحانه:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا }[مريم:54].
عباد الله إن ديننا الحنيف يُحذرنا عاقبة خلف الوعد، ونقض العهد، ويبين ما يترتب على ذلك من مقت الله I لمن يقول ولا يفعل، فقال سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }[الصف:2-3].
وقدحكم سبحانه على من نقض العهد بأن الدائرة عليه، ووبال نكثه راجع عليه، فقال (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ) [الفتح:10]. وجعل r خلف الوعد علامة من علامات النفاق، ووصفا من أوصاف المنافقين، فقال r: « آية المنافق ثلاث -وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم-: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » .
وقال عليه الصلاة والسلام: « لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له » .
إن الوفاء بالعهود، والعقود، والاتصاف بالصدق في القول والعمل دليل على الإيمان، دليل على طهارة النفوس، إنه علامة على رجاحة العقل، وسلامة الصدر، إنه من اتصف بالصدق في وعده، والوفاء بعهده يعظم أجره، وترتفع منزلته، ويسمو قدره، انظر أيها المسلم للرجل الصادق في عهده ووعده كيف تعلو في النفوس مكانته! وتعظم في القلوب منزلته! ويجمع الناس على الثقة به، فإن كان تاجرا اطمأنوا في بيعهم وشرائهم معه، ورغبوا في سلعته، وأحبوا معاملته، ووثقوا بقوله، وإن كان صاحب صنعة راجت صناعته، ونفقت بضاعته، وحسنت بين الناس سيرته، وأكسبه الوفاء بالوعد خيرًا في دينه ودنياه، وهكذا يكون كل من عامل إخوانه بالمعاملة الحسنة، والتزم الصدق والوفاء في عهده ووعده، ولو أن كل مسلم اتصف بذلك ؛لعلت منزلة المسلمين جميعا، فإن الأمة الإسلامية متى كان انجاز الوعد شعارها، والوفاء بالعهد رائدها فإنها تعلوا منزلتها، ويتقوى سلطانها، ويطيب عيشها. ويتآلف أفرادها.
فتدبروا -رحمكم الله -حال خائني العهود، ومخلفي الوعود، كم حق يضيعونه على أصحابهم؟ وكم مقت يجرونه على أنفسهم؟ وكم مصلحة تفوتهم بسب إخلاف وعودهم؟كفى بمخلف الوعد عقوبة أن لا يثق الناس به، وأن يتركوا معاملته، وينبذوا معاشرته فيعيش ممقوتًا، لا يجد من يساعده، أو يعطف عليه، ولقد أصبح هذا الخلق الذميم من الأمراض الاجتماعية الفاشية بين أكثر الطبقات إلا من رحم الله، وصار الناس إلا قليلا منهم لا يعتبرونه رذيلة؛لذيوعه وشيوعه بينهم، بل ربما عده البعض ذكاء وفطنة، وحسن تصرف، فلا يتحاشون عنه لعدم إحساسهم بما يترتب على خلف الوعد من ضياع المال، وخسران الأعمال، فمتى يا عباد الله نتصف بالوفاء؟! ونتحرى الصدق؟! ونتخلى عن خلف الوعد؟!ونبتعد عن الكذب؟!
من أراد أن يتصف بذلك، ويتعامل مع الناس المعاملة الحسنة التي تكسبه محبة الناس، ويبرأ من مذمة الخُلف، ويأمن عذاب الله، فليقلل من الوعود، ولا يعد حتى يغلب على ظنه الوفاء بالوعد، وليحذر أن يعد بما لا يقدر على الوفاء به، لئلا يتصف بصفات المنافقين فقد قال r: « أَرْبَعٌ من كُنَّ فيه كان مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا، إذا أؤتمن خَانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذا خَاصَمَ فَجَرَ ».
ويقول الله U في محكم كتابه:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }[النحل:91]. والله أسأل أن يوفقنا للتأدب بالآداب الإسلامية، والتخلق بالأخلاق المحمدية.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد الله الذي جعل الصدق عنوان العقول السليمة، والوفاء بالعهد شعار النفوس الكريمة، أحمده سبحانه على نعمه، وأشكره على سوابغ كرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، والتزموا الصدق في القول والعمل، وحافظوا على العهد في العسر واليسر كما أمركم الله بذلك، يقول سبحانه:{ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا }[الإسراء:34].
واعلموا أن تعاليم ديننا الحنيف مما يمليه علينا كتاب ربنا، أو توضحه سيرة نبينا يجب على الأمة الاتصاف بها؛لأن فيها سعادة الدين والدنيا، إن الاتصاف بأوامر الشريعة السمحة، والعمل بها، واتباع هدى نبينا r، وتوجيهاته الحكيمة الرامية لإصلاح المجتمع، وسلامته من التفكك والاختلاف والنزاع والشقاق، وكل توجيهاته وتعليماته r رشد وفلاح، وسعادة وصلاح، لو اتصفت بها الأمة وطبقتها جماعات وفرادى لكانت أسعد الأمم حظا، وأوفرها سعادة ومجدا، ولكن-مع الأسف- ضيعها الكثيرون، فنتج عن ذلك الحيرة والاضطراب، وانتشرت عوامل الخلاف والشقاق، وتدهورت أخلاق الأمة، فصارت بعد أن كانت عزيزة قوية مرهوبا جانبها، أصبحت ذليلة ضعيفة يتحكم فيها أعداؤها، ولا سبيل للتخلص من ذلك إلا باتباع تعاليم القرآن الكريم، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، والتمسك بهدي الرسول الكريم الناصح الأمين.
المرفق | الحجم |
---|---|
9الوفاء بالعهد والوعد.doc | 77.5 كيلوبايت |