الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه، وأسأله الإعانة على شكره، وذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أن الله منّ عليكم بالنعم العظيمة التي لا تعد ولا تحصى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
أمدّكم بنعمه لتحمدوه عليها، ولتقوموا بشكرها، والشكر إنما يكون بالعمل بطاعة الله الذي أسداها لكم، وأمدكم بها كما قال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وإن من أعظم هذه النعم بعد نعمة الإسلام، نعمة العقل، وهذه الحواس التي ركبها سبحانه في جسم الإنسان؛ ليعرف بها ما ينفعه وما يضره، ونعمة الجوارح التي يدفع بها عنه ما يؤذيه، ويستعملها فيما ينفعه، وإن من أعظمها نفعًا، ومن أشدها خطرًا جارحة اللسان، هذه الجارحة التي طالما وصلت بالرجل إلى درجة الصديقين والأبرار، وطالما أودت بصاحبها إلى درجة المنافقين والفجار، كما قال r لمعاذ t لما قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟!، قال r: « ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ».
عباد الله: إن آفات اللسان كثيرة، وأخطارها عديدة، فترى الكذب والافتراء والنميمة والأذى والفحش والبَذَاء والجدال والمِراءَ، والفخر والازدراء، كل أولئك آفات خطيرة، يجنيها اللسان على صاحبه، إنها آفات لا يجني الإنسان منها خيرًا، وإنما يكسب بها ضررًا، وهي في الوقت نفسه لا تصدر إلا عن اللسان، إن من آفاته القبيحة: الغيبة التي هي: ذكرك أخاك بما يكره.
فهي من أخطر آفات اللسان، وهي من أعظم ما ابتلي به الكثيرون، وكفاها ذمًّا وقبحًا أن الله شبهها في محكم كتابه بأكلك لحم أخيك المؤمن ميتًا، كفى بهذا تحذيرًا وتشنيعا وبشاعة وذما، يقول سبحانه:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 12].
وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن أنس t قال: قال رسول الله r: « لمّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم ».
وإن من آفات اللسان: النميمة التي هي: نقل الحديث من قوم إلى آخرين على جهة الإفساد بينهم، فهي خصلة من أعظم أسباب الفرقة بين المتآلفين، وهي من عوامل التشتيت والهدم للمجتمعات، ومن اتصف بهذه الخصلة القبيحة فهو من شرار الناس، بإخبار المعصوم r كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن عبد الرحمن بن غنم t قال: قال رسول الله r: «خيار عباد الله، إذ رءوا ذكر الله، وشرار عباد الله، المشّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت ».
إن المتصف بالنميمة برهن على نفسه بمحبته للشر، وعداوته لإخوانه المؤمنين؛ لأنه يسوؤه أن تصفو حالتهم، ويجتمع شملهم، فهو يحاول إيقاع الفساد بينهم، وتشتيت أمورهم، ليشفي ما في صدره من الغل والحسد، ألا وإن من أعظم آفات اللسان جرمًا وأكبرها خطرًا: الكذب الذي هو من صفات أهل النفاق، وهو من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، يسقط الهيبة، ويودي بالشرف، ويزري بصاحبه، ويسلب منه الثقة، وطمأنينة الناس إليه، ولا يزال الإنسان يطلق العنان للسان في الكذب، حتى يعرف به، فلا يسمع له حديث ولو كان صادقًا، ومن أعظم عقوباته أن صاحبه يكتب عند الله كذابًا، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله r: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا ».
وإن أعظم الكذب يا عباد الله: ما كان على الله، أو على رسوله، فقد قال الله تعالى:{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وقال r: « من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ».
واحذروا عباد الله من المراء والجدال، فإنهما من آفات اللسان ومما يجلب للمرء البغض والكراهية له عند الناس، والمراء: هو الاعتراض على كلام الغير بإظهار العيب، ومحاولة إظهار الخلل فيه، وهو يقسي القلوب، ويورث الضغائن، ويجلب البغضاء، فليس على النفوس أشد من التحقير، والسخرية، والاستهزاء، والتنقص، والازدراء، وقد قال بعض العلماء: إن الباعث على المراء والجدال هو الكبر، وحب الظهور، والفخر، والغلبة، وإظهار الفضل على الناس.
فاتقوا الله عباد الله وابتعدوا عن أذية عباد الله المؤمنين، وعليكم بالتواضع، وحفظ اللسان، وجميع الجوارح عما حرم الله عليكم، واحذروا مجالس السفهاء والفساق، فإنهم يكسبونكم من أخلاقهم السيئة، من حيث لا تشعرون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 10 - 13]
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدْي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والمن الجسيم، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وعلنكم، واعلموا أن الله يُحصي عليكم أعمالكم، وسيجازيكم بها إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وإن الجوارح مستنطقات يوم القيامة، وستشهد الألسنة والأيدي والأرجل{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[النور:24]. ولا بد أن يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، يقول سبحانه:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }[الإسراء:36].
فاحذروا عباد الله من آفات الجوارح كلها، ولا سيما اللسان، فإنه أعظمها خطرًا، وابتعدوا عن السباب، والفسوق، والشتم، والتعرض لعباد الله في أعراضهم، أو أموالهم، أو الطعن في أنسابهم، فقد قال الله I:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب: 58].
المرفق | الحجم |
---|---|
15المحافظة على اللسان.doc | 74.5 كيلوبايت |