الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، الآمر بكل خلق قويم، أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحليم العليم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، ذو الخلق العظيم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، أبعد الناس عن كل خلق ذميم، وأقربهم إلى كل خلق كريم .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، وراقبوه في أقوالكم وأفعالكم، واحفظوا ألسنتكم وأسماعكم وأبصاركم وجميع جوارحكم من كل ما حرم الله عليكم، وإياكم وفضول السماع والكلام والنظر، فإن فضول هذه الأمور من أضر ما يكون على الأفراد والأسر والمجتمعات . إنها من أعظم الفساد في الدين والدنيا .
إنها دأب ذوي الفراغ والمبتلين بالدخول فيما لا يعنيهم من أصحاب الظنون السيئة، المتفرغين للقيل والقال، وكثرة السؤال، والمعرضين عما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم، أولئك هم الذين خسروا دينهم ودنياهم .
وقد حذر الشرع من ذلك غاية التحذير، ونفر عنه أشد التنفير، فقال سبحانه:{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال سبحانه:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. ويقول r: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم » ([1])، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ([2]) أي: ما لا يهمه في أمور دينه ودنياه، ولا تتعلق عنايته ولا مسئوليته به .
ولقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله يحذرون من الدخول فيما لا يعنيهم أشد الحذر، ويخافون من الوقوع والانزلاق في فضول القول، وفضول النظر، وفضول الاستماع ؛ لما يعلمون من الخطر العظيم في فضول هذه الأشياء، فرب كلمة قذفت بصاحبها في قعر جهنم، ورب نظرة أوقدت في قلب صاحبها شواظًا من النار، ورب استماع ألقى صاحبه في المهالك والفجور .
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t، عن النبي r قال: « إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب » ([3]).
وقد روي عن أبي ذر t، عن النبي r في حديث طويل جاء فيه: « .. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه » .
وروى الترمذي عن أنس t قال: توفي رجل من أصحاب النبي r فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله r: « أولا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه » ([4]).
وأخرج العقيلي عن أبي هريرة t مرفوعًا: «أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه ».
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - دخل رجال على بعض الصحابة في مرضه، ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين، كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين .
وروى الطبراني عن أنس مرفوعًا: « من حفظ لسانه ستر عورته » ([5]).
ولأبي يعلى عنه t: « لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه»([6]).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت » ([7]).
وفي المسند عن أنس عن النبي r قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» ([8]).
وعن الحسن رحمه الله أنه قال: « من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه » .
أما فضول النظر فإنه من أخطر الأشياء ومن أعظمها شؤمًا وبلاءًا، وقد أمر القرآن الكريم بغض البصر، وكرر ذلك في حق الرجال والنساء، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30] . وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }[النور:31].
إن النظر بريد الزنا، وهو سهم مسموم من سهام إبليس - لعنه الله -، فقد روى الطبراني عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r فيما يرويه عن ربه عز وجل: « النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه » ([9]).
وفي المسند عن أبي أمامة t عن النبي r قال: « ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة ثم يغض طرفه إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه » ([10]).
وعند الدارمي عن معاوية بن حيدرة t قال: قال رسول الله r: «ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله » ([11]).
وقد قال r: « يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة » ([12]).
وأما فضول الاستماع فإنه يدخل في ذلك أمور كثيرة .
منها الاستماع إلى الغناء المحرم، وآلات اللهو والطرب، المنهي عنها، لقوله سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}لقمان:6]، وقد قال طائفة من الصحابة والتابعين: إن المراد بذلك هو الغناء، كما هو مروي عن ابن عباس،وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وغيرهم .
ومنها: الاستماع إلى الغيبة والنميمة، وعدم ردها، والإنكار على المتكلم، وكذا السباب والوقوع في أعراض الناس، وتعييرهم، والخوض في الأمور المنهي عنها، فقد قال سبحانه في صفة عباده المؤمنين:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ }[القصص:55]، وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ }[المؤمنون:3] وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}[الفرقان:72] أي لا يحضرون مجالس الكذب والزور والبهتان .
ومن السماع المحرم الاستماع إلى أحاديث الناس، وهم له كارهون، فقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي r أنه قال: « من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة » ([13]) والآنك: هو الرصاص المذاب على النار .
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، وأبصاركم، وأسماعكم، وجميع جوارحكم عما حرم الله عليكم، تكونوا من عباد الله الحافظين لحدوده، الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:36-38] .
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد البشر، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحققوا تقواكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والعمل بسنة نبيكم، وتوجيهاته الكريمة r .
واعلموا رحمكم الله أن جوارحكم أمانة من الأمانات التي حملكم الله إياها، فاحفظوها عن الوقوع في المهلكات، والانزلاق في المحرمات، لا سيما السمع والبصر واللسان، فإنها من أعظم الجوارح خطرًا، ومن أسوئها ضررًا، وهي مزلة للأقدام، موردة للآثام، وإن الله أمركم بحفظ أماناتكم، ونهاكم عن خيانتها، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[الأنفال:27].
وإن من أهم الأمانات هذه الجوارح التي جعلها الله مسخرة ومسيرة بأمر العبد، منقادة لإرادته، فالأعين الخائنة التي تمتد إلى النظرات المحرمة، والأيدي الباطشة التي تسفك الدم الحرام ، أو تسطوا على عباد الله بأنواع الآثام، والأرجل التي تسير إلى تحقيق النزوات، والشهوات المحرمة، والألسن التي تنطق بقرض أعراض المسلمين، والتندر بمثالبهم، والكذب عليهم، وكذلك الأذن التي تصغي إلى استماع الكذب، والفجور، والغيبة، والنميمة، والمعازف، والملاهي، وكل جارحة يستعملها العبد فيما حرم عليه، فإنها تشهد عليه يوم القيامة بسوء عمله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النور:24].
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بواجب حفظ الأمانات التي حملتموها، لتكونوا من الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون .
([1]) رواه الترمذي في كتاب الإيمان رقم (2616)، ورواه ابن ماجة في كتاب الفتن رقم (3973) .
([2]) رواه الترمذي في كتاب الزهد رقم (2317)، وابن ماجة في كتاب الفتن رقم (3976) .
([3]) رواه البخاري في كتاب الرقاق رقم (6477)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق رقم (2988).
([4]) رواه الترمذي في كتاب الزهد رقم (2316) .
([5]) عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/70) إلى الطبراني في الأوسط .
([6]) عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/302) إلى الطبراني في الصغير والأوسط .
([7]) رواه البخاري في كتاب الأدب، رقم (6018) ومسلم في كتاب الإيمان رقم (1353) .
([8]) رواه أحمد في مسنده (3/198) .
([9]) عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/63) إلى الطبراني .
([10]) رواه الإمام أحمد في مسنده 5/264 .
([11]) سنن الدارمي، كتاب الجهاد، رقم (2293) .
([12]) رواه الترمذي في سننه في كتاب الأدب رقم (2777)، وأبو داود في كتاب النكاح رقم (1837) .
([13]) رواه البخاري في كتاب التعبير رقم (6520) .
المرفق | الحجم |
---|---|
16حفظ الجوارح.doc | 82.5 كيلوبايت |