الحمد لله ذي الرحمة والإحسان، والفضل والامتنان، أحمده سبحانه على نعمه المتوافرة، وأشكره على مننه المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، ذو الخلق العظيم، الموصوف بأنه { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه المتراحمين بينهم والمتعاطفين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن الله يحب المتقين، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، واعلموا أن العطف والإحسان من أخلاق الأنبياء والمرسلين، ومن صفات عباد الله المؤمنين، فاتصفوا بصفاتهم، وتخلقوا بأخلاقهم، وابتعدوا عن أخلاق أهل الكبر والطغيان، والقسوة والغلظة على الناس، فإنها صفات ذميمة، ذمها الله في كتابه بقوله سبحانه:{ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[غافر: 35]، وقد ذم رسول الله r من لا يرحم الناس، وأخبر أن من لم يرحم الناس فإنه بعيد من رحمة الله، بل محروم منها، فقد جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله t قال: قال رسول الله r: « من لا يرحم الناس لا يرحمه الله » ([1]). فهذا وعيد شديد، وتخويف، وتهديد، وما أشقى من حرم رحمة الله .
ومفهوم الحديث: أن من يرحم الناس يرحمه الله، ولذلك جاء تأكيد هذا المعنى في الحديث الآخر: « الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » ([2]) والله U يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] والرحمة نوع من أنواع الإحسان، فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله التي من آثارها ومن ثمراتها حصول خيرات الدنيا والآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع من رحمة الله.
إن العبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة ربه في دينه ودنياه، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما حصل له من النعم، أو اندفع عنه من النقم، فإنما هو من فضل الله ورحمته، فمتى أراد العبد أن يستبقي نعم الله عليه، أو يستزيد منها، فليعمل الأسباب التي تنال بها الرحمة، وتجتمع كلها في الإحسان الذي جمعته هذه الآية الكريمة: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وهم المحسنون في عبادة ربهم، المراقبون لله في جميع شؤونهم، الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه جل وعلا يراهم، ويطلع على أحوالهم، كما قال سبحانه:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء: 217 - 220]هذه حالة أهل الإحسان، إنهم يحسنون إلى عباد الله بالعطف عليهم، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، والبعد عن أذيتهم، والتكبر عليهم، واحتقارهم، فإذا اتصف العبد بالإحسان إلى الناس ظهر أثر ذلك عليه برحمته، وشفقته عليهم.
وقد يمتن الله على العبد فيجعل الرحمة فيه غريزة، يجبله الله عليها جبلة بدون تكلف، فيجعل في قلبه الرحمة والرأفة والحنان على الخلق، فيعمل بمقتضى ذلك ما يقدر عليه من نفع الناس بحسب استطاعته، فهو محمود مثاب على ما قدر عليه من النفع، معذور عما يعجز عنه.
وربما كتب الله له بنيته الصادقة ما عجز عن فعله، فمن حصل له هذا النوع فليحمد الله عليه، ومن لا تحصل له الرحمة والرأفة إلا بتحمل ومشقة فليجاهد نفسه على ذلك، وليعلم أن هذا من أفضل الأعمال، وهو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، والله U يقول:
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] فيجاهد المسلم نفسه على الاتصاف بالشفقة والرأفة والبعد عن الغلظة والفظاظة والقسوة، ويعلم أن هذا الوصف من أجل مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على ذلك، ويعلم ما رتب الله عليه من الجزاء والثواب، فيرغب نفسه في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك، ويعلم أن الجزاء من جنس العمل، ويعلم أن الأخوة الدينية، والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخوانًا متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء، والعداوات، والتدابر، والتنافر، عملًا بتوجيهات الناصح الأمين r بقوله في الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله r قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه -أي لا يتخلى عنه وقت الشدائد- من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة » ([3]).
وروى مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»([4]).
عباد الله: هذه توجيهاته r وإرشاداته لنا بالتخلق بهذه الأخلاق، والعمل بها لتحصل لنا سعادة الدنيا والآخرة، فإنه متى اتصف العبد بهذه الصفات امتلأ قلبه من المحبة لإخوانه المؤمنين، والرحمة والحنان عليهم، وظهر أثر ذلك على جوارح العبد، فظهر على يديه إيصال الخير إليهم من صدقة، وبر، ونفع، وسعي في مصالحهم، وظهر على لسانه بالنصح والإرشاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء لهم، وامتلأ قلبه من حب الخير لهم، وزال عنه الحقد والحسد والبغضاء، فحصلت له بذلك حسنة الدنيا براحة ضميره، وطمأنينة حاله، وسلامة قلبه، وما يحصل له من جراء ذلك في الآخرة خير وأبقى.
وإن من سعادة المسلم أن يتصف بالشفقة والرحمة، ومحبة وصول الخير لإخوانه المؤمنين، وأن يكره حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة لإيصال الخير لهم، وبقدر كراهية حصول الضرر عليهم تزكو أعماله، ويقوى إيمانه، ويجني ثمار ذلك في دنياه وأخراه.
لقد أخبر r أن الله غفر لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل بسبب رحمتها لكلب كاد يموت عطشًا، وهو يمص الثرى من شدة العطش فسقته، فغفر الله لها بسبب رحمتها له([5]).
وأخبر r أن الله عذب امرأة في النار بسبب هرة ربطتها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعًا وعطشًا، فهي تعذب بها في النار([6]).
فإذا كان هذا الثواب وهذا العقاب بسبب حيوان، فكيف يكون الثواب والعقاب في حق عباد الله المؤمنين!! وقد قال r : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء » ([7]). وقال عليه الصلاة والسلام: «في كل كبد رطبة أجر » ([8]). وفي لفظ: « في كل ذات كبد حَرَّى أجر » ([9]).
والإحسان إلى الخلق والرحمة بهم من أفضل الأعمال سواء كان مما هو واجب كالحقوق الواجبة التي أوجب الله عليك ورسوله، أو مما هو مستحب مما رغب الله فيه، ورغب فيه رسوله r من بذل كل نفع مالي أو بدني أو علمي أو إرشاد أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على أخيك المسلم فهو صدقة وإحسان، وكل ما أزال عنه المكروه أو دفع عنه ما يؤذيه من قليل أو كثير فهو صدقة وإحسان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [النساء: 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه في أقوالكم، وفي أفعالكم، واقتدوا بنبيكم، وتمسكوا بهديه، فإن خير الهدي هدي محمد r ، واتصفوا بصفات عباد الله المصطفين الأخيار، الذين أثنى الله عليهم، وبين لنا صفاتهم لنتأسى بهم، فقد قال سبحانه في وصفهم: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] فهم يمشون على الأرض متواضعين لله ولعباد الله، امتلأت قلوبهم طاعة وذلًا لربهم، ورحمة وشفقة على عباد الله، فإذا خاطبهم الجاهلون الذين حرموا الصفات الحميدة، والعلوم الزاكية، قالوا سلامًا، قالوا للجاهلين قولًا سليمًا من المعائب والمآثم والشتائم، لم يقابلوا السيء بمثله، بل قابلوهم بالصفح والعفو والإحسان، لرزانة عقولهم، ورجاحة حلومهم، فالجاهلون يسيئون إليهم وهم يحسنون، يرجون ثواب الله، ويخافون عقابه، فلذلك مدحهم سبحانه، وأثنى عليهم بهذه الصفات الحميدة، وبينها لنا لنتأسى بهم، ونقتدي بأفعالهم.
([1]) رواه البخاري في كتاب التوحيد (7376) ورواه مسلم في كتاب الفضائل رقم (2319).
([2]) رواه أبو داود في سننه في كتاب الأدب، رقم (4941) ؛ والترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، رقم (1924) وقال : حديث حسن صحيح.
([3]) رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2580).
([4]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2564).
([5]) رواه مسلم في صحيحه في كتاب السلام رقم (2245).
([6]) رواه البخاري في كتاب المساقاة رقم (2365).
([7]) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، رقم (3615) ورواه مسلم في كتاب السلام رقم (4162).
([8]) رواه البخاري في كتاب المساقاة رقم (2363).
([9]) رواه ابن ماجه في سننه في كتاب الأدب رقم (3676).
المرفق | الحجم |
---|---|
18الشفقة والرحمة.doc | 82 كيلوبايت |