الحمد لله ذي السلطان العظيم، والمن القديم، له الفضل والإحسان، والعطاء والامتنان، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه، وأعوذ به من أسباب سخطه ونقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الورى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله -سبحانه وتعالى- واعبدوه حق عبادته، قال الله U:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [النساء: 36]. فالله -سبحانه يأمر- عباده بعبادته وحده لا شريك له، وعبادته أوجب الواجبات، وأعظم الحسنات، وتركها أعظم السيئات.
إن عبادة الله وحده هي التي أوجدت الخلائق من أجلها، هي التي بعثت الرسل بها، هي التي أنزلت الكتب من أجلها، هي التي خلق الإنس والجن لها، قال الله – تعالى-:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 56 - 58]. والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، فيجب على العبد أداء العبادة لله وحده، ولا يلتفت إلى غيره سبحانه، ولا يتعلق قلبه بغير ربه وإلهه الذي أنشأه من العدم، ووهب له سوابغ النعم، فإن دعا دعا الله وحده، وإن استنصر استنصره وحده، وإن استغاث فبالله، وإن استجار فبالله، وإن نذر فله، وإن أصابه ضر التجأ إلى الله، وإن أصابه خير شكر الله، فلا يتعلق قلبه بغير ربه في طلب محبوب، أو هرب من مكروه، فهذه حقيقة العبادة.
أما من عبد الله ولكن أشرك معه أحدا في عبادته؛ في دعاء، أو استغاثة، أو نذر، أو ذبح، أو طلب حاجة من الحوائج التي لا يقدر عليها إلا الله، فقد أشرك بالله، فالله U يقول: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فعليك أيها المسلم بإخلاص العبادة لله وحده، لا شريك له، واعرف حقه سبحانه عليك، واقدره حق قدره. واعلم أن من عبادته وطاعته سبحانه طاعة الوالدين، والبر بهما، والإحسان إليهما، ومعرفة ما أوجب الله لهما عليك، فلقد قرن حقهما سبحانه بحقه في عدة آيات كما قال U : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14].
فيجب عليك أيها المسلم الإحسان إلى والديك، والبر والتلطف بهما، وامتثال أوامرهما، قال ابن عباس t: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بدون قرينتها، فذكر منها قوله -تعالى- { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ }، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه، ولذا روى عن النبي r أنه قال: « رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين» . وعن ابن عمرو t قال: جاء رجل يستأذن النبي r في الجهاد معه، فقال النبي r : « أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد » . وقال r : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين » .
أيها المسلم: كما تزرع تحصد، وكما تدين تدان، فمن زرع المعروف يحصد الشكر، ومن زرع الشر يحصد الندامة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! وهل عاقبة الإساءة إلا الخسران؟! .
إن البر بالوالدين لمن آكد الحقوق، وأوجب الواجبات، وطاعتهما من أفضل الطاعات، لهذا قرن الله حقهما بحقه سبحانه، وشكرهما بشكره، فمن حقوقهما عليك أن تكرمهما، وتحسن إليهما، وتبذل نفسك ومالك في سبيل مصلحتهما، وتسعى جهدك في كسب رضاهما، وإن بلغا عندك الكبر فلاطفهما بما يحبان، واحتمل أذاهما، ولا تضجر من حوائجهما مهما كانت، وأحسن إليهما في حال الضعف والكبر، كما أحسنا إليك في حال العجز والصغر، وكن بهما رؤوفا رحيما، وعليهما عطوفا حليما، فمن أولى بالبر والطاعة والإحسان من أمك الشفيقة، البرة الرفيقة؟!.
هي التي ذاقت الآلام مدة حملك، وقاست من الشدائد ما قاست وقت معالجة وضعك، ثم أضعفت قواها بإرضاعك حولين كاملين، وأتبعتها بحملك، تارة على الصدر، وأخرى على اليدين، كم لوثتها بالأقذار! وكم أزالتها عنك بلا ملل ولا ضجر. وإذا مرضت باتت ليلها ساهرة جائعة حزينة باكية، متألمة لألمك، خائفة عليك مما ألم بك، فكيف بعد هذا تؤثر غيرها عليها في البر؟! وتقدم سواها بالإحسان؟!. ثم من أحق بالحنان والرحمة والإحسان من أبيك العطوف الرحيم؟! الذي أحسن إليك، ومن نفيس أمواله أنفق عليك، وأرشدك إلى ما ينفعك في دينك ودنياك .
عباد الله، إن عقوق الوالدين نكران للجميل، وكفران للنعمة، ومقابلة للإحسان بالإساءة. الويل كل الويل لعاق والديه ! والخزي كل الخزي لمن باتا غضبانين عليه ! أفٍّ له ! هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟ كم آثراك على النفس ! ولو غبت ساعة صارا في حبس، قد رعياك طويلا فارعهما قصيرًا، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.
اللهم قابل إساءتنا بإحسانك، واستر خطيئتنا بغفرانك، وألهمنا رشدنا، وأجزل من رضوانك حظنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23، 24].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله؛ اتقوا الله - تعالى - حق تقاته، وعظموا أوامر ربكم وشعائره وحرماته، فقد قال- سبحانه -:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج: 32].
عباد الله، إن كثيرا من إخواننا يأتون إلى الحرم الشريف مصطحبين معهم أولادهم الصغار، وأطفالهم الذين لا يعقلون ولا يعرفون حرمة المسجد الحرام، فيحصل منهم تشويش على المصلين والطائفين والذاكرين لله والتالين لكتابه، وهذه في الحقيقة إساءة أدب مع المسلمين، وإهانة لهذه البقعة الطاهرة الشريفة، وتلويث لها ومضايقة لعباد الله المؤمنين، لا يليق بالمسلم أن يفعل هذا، ولا يحسن بعاقل أن يسيء إلى عباد الله في بيوت الله، على حساب ترفيهه عن صبيانه ونفسه.
إن أمثال هؤلاء كأنهم لم يأتوا لقصد العبادة، أو أداء الفريضة، ولكن جاءوا للتفرج والنزهة والاجتماع بمعارفهم فنجد أحدهم يطلق سراح صبيانه يمرحون، ويزعقون أمام المتعبدين، وبين صفوف المصلين، وهو مرتاح الضمير، يتحدث مع رفيقه كأنه لم يعمل شيئا. ما هذه الوقاحة؟! وما هذا الاستهتار بحرمة أفضل بقعة؟! وحرمة إخوانك المؤمنين ، فالله سبحانه نهى عن أذية المؤمنين والمؤمنات وأمر بتعظيم حرماته فقال: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج: 30].
المرفق | الحجم |
---|---|
2الحث على أداء حق الله وحقوق الوالدين.doc | 73.5 كيلوبايت |