الحمد لله الذي رفع أهل العلم والإيمان، ومن عليهم بالتوفيق والعرفان، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الإنعام، وأسأله التوفيق لمعرفة الحلال والحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلام، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واعلموا عباد الله أن التقوى وتحقيق الإيمان، والسلامة من المهلكات والآثام لا تتم ولا تحصل إلا بالعلم النافع، العلم بما جاء عن الله، وعن رسوله، مما يجب علينا معرفته، والعمل به من توحيده سبحانه، ومعرفة ما فرضه علينا من أنواع العبادات التي يجب على العبد القيام بها، وتأديتها على الوجه الشرعي، ومعرفة الحلال والحرام ؛ ليسلم بذلك من ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله.
وإن معرفة الأحكام التي فرض الله سبحانه على عباده دليل على إرادة الخير للعبد، وإن الله سهل له ذلك به لإرادة الخير به كما قال r: « من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين».
وكما دعا r لابن عمه عبد الله بن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فكان ابن عباس رضي الله عنهما من أفقه الصحابة، ومن أعلمهم بتأويل معاني كتاب الله سبحانه بسبب دعوته r، وهذه الدعوة المباركة من أنفع الدعوات ؛ لأن نفعها في الدين والدنيا، وفي الآخرة والأولى.
فالفقه في الدين دليل على إرادة الخير للعبد من ربه إذا كان عاملا بعلمه، وذلك أن الفقه في الدين سبب لمعرفة ما يجب لله سبحانه على عبده من محبته، وتعظيمه، والذل له، وأداء ما أوجبه الله عليه على وجهه الصحيح الذي أراده الله منه، ولا يتأتى معرفة ذلك إلا بالتعليم والتفهم، ومتابعة الرسول r، والتمسك بهديه، ومعرفة كتاب الله، والمراد منه، ولا يحصل ذلك إلا بالعلم النافع الموروث عن سيد البشر r.
وإن طلب هذا العلم الشرعي فرض من فرائض الدين، وواجب من واجبات شريعتنا الإسلامية، وقد قال الله U لنبيه الكريم آمرا له بطلب الزيادة من العلم، وسؤال الله أن يزيده علما: ( وقل رب زدني علما ) [طه:114].
وقد روي عنه r أنه كان يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال » ، وقد أخبر سبحانه بأن من أعطاه الله العلم فقد أعطاه الله خيرًا كثيرًا فقال سبحانه:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة:269].
قال أكثر العلماء: الحكمة إصابة الحق والعمل به، وهي العلم النافع، والعمل الصالح. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ».
العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
وروى أبو داود الترمذي وغيرهما عن أبي الدرداء t قال: سمعت رسول الله r يقول: « من سلك طريقا يبتغي فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثو العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ».
عباد الله: بهذه الآيات والأحاديث والآثار وغيرها مما ورد في معناها يتضح فضل تعلم العلم الشرعي، الذي يخرج صاحبه من الظلمات إلى النور, من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشكوك إلى نور اليقين، ومن ظلمات الذنوب والمعاصي، إلى نور الطاعة والعبادة، ومن ظلمات البعد عن الله إلى نور القرب منه سبحانه، فعليك أيها المسلم أن تجعل لنفسك قسطا من تعلم العلم النافع، الذي يبين لك الطريق الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، يبين لك كيف تعامل ربك في طاعته وعبادتك له، وكيف تعامل والديك وأهلك وأولادك، وكيف تعامل أقاربك وجيرانك، وكيف تتعامل في بيعك وشرائك، وكيف تعامل إخوانك من المؤمنين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. فيا أيها العالم الذي من الله عليك بالعلم هنيئا لك إذا قمت بواجبك، وعملت بما علمت، والخيبة والخسار لك إن علمت ولم تعمل، فإنك بذلك قامت عليك حجة الله، وعرضت نفسك لسخط الله.
عباد الله: إن كثيرًا من الناس اليوم أعرضوا عن العلم النافع، وشغلوا أوقاتهم بغيره، مما يصد عن ذكر الله، وبما لا ينفعهم في دينهم، بل ربما كان ضررا عليهم في دينهم ودنياهم، عكف الكثيرون على الملاهي، وأعرضوا عن تلاوة كتاب ربهم، وقراءة سنة نبيهم، وسيرة رسولهم r، المشتملة على صلاح القلوب، وتهذيب الأخلاق، نرى كثيرًا من الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فترى البعض على ما هم فيه من أعمال وأشغال وتجارات يحرصون على معرفة بعض اللغات الأجنبية، ويبذلون جهدهم، ويتحملون في سبيل ذلك الجهد المادي والبدني والزمني، وغايتها أنه ينال بها عرضًا من الدنيا قليلاً أو لمجرد حاجة قد تعرض.
ولا نقول: إن ذلك لا يجوز، ولكن نقول: إنه ترك الواجب، واشتغل بالمباح، فإنه أعرض عن تعلم ما يجب عليه معرفته في دينه، واشتغل بما لا يضره جهله، والحقيقة أن هذا من قلة التوفيق، وعدم البصيرة، وإلا فما يضرك أيها المسلم لو جعلت لك جزءا من وقتك - ولو قليلا - تتعلم فيه ما ينفعك في دينك، مما يجب عليك معرفته في أحكام دينك، في طهارتك، في أحكام صلاتك، في أحكام زكاتك، وصيامك، وبيعك وشرائك، لو فرغت نفسك قليلا ولو ساعة واحدة في الأسبوع لأدركت خيراً كثيراً، وأنقذت نفسك من الجهل واتصفت بالعلم، واكتسبت شيئا من ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: « من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة ».
فاجتهدوا - رحمكم الله -في معرفة دينكم، وما أوجب الله عليكم، ولقد من الله عليكم ببعثة هذا النبي الكريم، يعلمكم مما علمه الله، كما قال سبحانه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [آل عمران:164].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تعلم العلم الشرعي وتعليمه من أفضل الأعمال، وأنه أفضل من نوافل العبادات، كالصلاة والصيام والصدقة، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: تذاكر بعض ليلة -أي: في العلم- أحب إلي من إحيائها بالعبادة ؛ لأن العلم نفعه لصاحبه ولغيره، والعبادة مقصورة على صاحبها. وقد روي عن أبي هريرة t أنه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم، فقال: أنتم هنا فيما أنتم فيه، وميراث رسول الله r يقسم في مسجده. فقاموا سراعًا إلى المسجد فلم يجدوا إلا القرآن، والذكر، ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلت يا أبا هريرة؟ فقال: هذا ميراث محمد r يقسم بين ورثته، وليس بمواريثكم ودنياكم.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بنصيب من ميراث نبيكم تفلحوا.
المرفق | الحجم |
---|---|
3الحث على تعلم العلم الشرعي.doc | 78.5 كيلوبايت |