الحمد لله الكريم المنان، مَنَّ على من شاء من عباده فأذاقهم حلاوة الإيمان، وشغلهم بذكره وشكره باللسان والقلب والأركان، أحمده سبحانه وأشكره على ماله من الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه بالتقرب إليه بالأعمال الصالحات، والبعد عن المنكرات ولزوم ذكره وشكره، فإن ذكر الله من أفضل الأعمال، وأجل القربات .
واحذروا الغفلة عن ذكره، فإن الله ذم الغافلين عن ذكره، ونهانا أن نكون مثلهم، فإن الغافل عن ذكر الله قد استحوذ عليه الشيطان، فأنساه ذكر الله، وكان من الخاسرين.
لقد تحدث القرآن الكريم عن الذاكرين لله، وأثنى عليهم جميل الثناء، ووعدهم جزيل العطاء، وتحدث عن الغافلين عن ذكر الله منذ دأبهم، محذرًا من مخالطتهم، والدخول في زمرتهم .
أما الذاكرون الله كثيرًا فإن الله نوه بذكرهم، وبين لنا فضل شأنهم، وحثنا على الالتحاق بهم، والانتماء إليهم، واصفًا حالهم ومآلهم فقال سبحانه:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }[الأحزاب:35] وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الأحزاب:41-42]وقال سبحانه:{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الأنفال:45]. { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }[الأنفال:2] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28] {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد:16].
إن الذاكرين من عباد الله قد امتن الله عليهم بنعم وفيرة، ومنن جسمية، ألا وإن من أكبرها منة وأفضلها نعمة أن الله سبحانه يعلي مكان من ذكره، ويعظم شأنه، بأنه يذكره جل وعلا، وينوه بذكره بين ملائكته، ويذكره سبحانه في نفسه، كما قال عز وجل:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }[البقرة:152].
فمن ذكر الله وهو خال وحده ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ من الناس، ذكره الله في ملأ خير منهم، وقد جاء في الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم » ([1])، وذكر الله لعبده يعطي معنى الرضا والقبول، وعلى تأهيله لنيل السعادة وحصول المأمول .
إن ذكر الله سبحانه وتعالى يحمل المؤمن على المبادرة بطاعة الله، يحمله على المحافظة على الواجبات الشرعية، يحمله على إخلاص العمل لله، وتعلق القلب به وحده دون من سواه، يحمله على المحافظة على أداء هذه الفريضة العظيمة ؛ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، هذه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويحمله على المحافظة على أوقاتها، وعلى أركانها، وخشوعها، وعلى واجباتها، وأدائها مع جماعة المسلمين في بيوت الله .
إن ذكر الله يحمل على بر الوالدين، وصلة الأرحام، والمعاملة الحسنة مع إخوانه المؤمنين .
إن ذكر الله يوجب للعبد البعد عن معاصي الله، البعد عن الشرك بالله، البعد عن الرياء والسمعة، البعد عن المنكرات .
إن ذكر الله يوجب للعبد المسارعة إلى التوبة والاستغفار عندما يلم بمعصية الله، عندما تحمله النفس الأمارة بالسوء على اقتراف شيء من الذنوب، أو يسول له الشيطان ويحسن له كبائر الإثم والفواحش، فإذا وقع في شيء من ذلك حمله ذكر الله على التوبة والاستغفار، والرجوع إلى ربه، فانكسر، وتذلل بين يدي خالقه وبارئه، ولم يصر على المعصية، بل ندم غاية الندم، وأقلع عن الذنب، وعزم على أن لا يعود إليه، كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[آل عمران: 135]. هذه حال المؤمنين الذاكرين الله كثيرًا.
أما الغافلون عن ذكر الله ؛ فقد حذرنا الله منهم ومن مخالطتهم، فقال سبحانه: { وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }[الأعراف:205] { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }[الكهف:28] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النجم:29] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] .
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الغفلة عن ذكره وشكره، وكونوا من عباد الله الذاكرين الله كثيرًا، لتحصل لكم السعادة الأبدية في دينكم ودنياكم، فقد جاء في الحديث الصحيح: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. فذكر منهم: رجلًا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه » ([2]) فهذا وصف من ذكر الله بلسانه وقلبه، فاستولى عليه يقينه بربه وخوفه منه، فبكى وفاضت عيناه بالدموع، خوفًا ورجاءً، ورغبة ورهبة، فاستحق هذا الثواب العظيم، وهو أن الله يظله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال:2-4].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين الذاكرين، وأستغفره من كل ذنب عظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، والهجوا بذكره وشكره، اذكروه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، تذكروا نعمه عليكم، بهدايتكم لدينه القويم، وإتمام نعمه عليكم فهو سبحانه خالقكم ورازقكم وهو الهادي إلى سبيل الرشاد، والمنقذ من سلوك طريق الغي والفساد .
واحذروا الغفلة عن ذكره ولا تتشبهوا بالمنافقين الذين أعرضوا عن ذكر الله فابتعدوا عن الله، وقد ذكر الله صفاتهم تحذيرًا لنا، وبيانًا لسوء عاقبتهم، فقال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا }[النساء:142] .
فهذه صفات المنافقين أنهم يخادعون الله ويعادون أولياء الله، ويستعملون مكرهم ضد أهل الحق والصلاح، ويحيكون لهم المؤامرات، فهذا دأبهم، ولكن الله يخادعهم ويحاربهم على عملهم، وينتقم منهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
([1]) رواه البخاري في كتاب التوحيد، رقم (7405) .
([2]) رواه البخاري في كتاب الآذان، رقم (660) .
المرفق | الحجم |
---|---|
8ذكر الله.doc | 77.5 كيلوبايت |