الحمد لله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للصابرين، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر،{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل المرسلين، وسيد الصابرين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله - تعالى - حق تقاته، واعبدوه حق عبادته، وتدرعوا بالصبر في جميع الملمات، واحتسبوا الأجر في كل المصيبات. واعلموا أن الدنيا دار الأنكاد والأكدار، طبعت على كدر، وبها خلق الإنسان في كبد، لا تصفو لتقي ولا لشقي، ولا تحلو لجاهل ولا عالم، ولا يسلم من غوائلها صغير ولا كبير، ولا إنسان ولا حيوان.
إنها دار الابتلاء والامتحان، دار الأنكاد والأحزان، دار النصب والوصب، كم فرقت بين أليف وأليفة ! وحبيب وحبيبه، ووالد وولده، وصديق وصديقه، وصدق الله العظيم: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] . لكنها مزرعة للآخرة؛ يزرع فيها المؤمنون الأعمال الصالحة، ويتقربون فيها إلى ربهم بأنواع الطاعات والقربات، يرجون من الله ما أعده في جنة النعيم للمطيعين:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 33 - 35].
وهذا الفضل العظيم، والنعيم المقيم، لا يكون إلا للمؤمن؛ المؤمن بلقاء ربه، الصابر على مر القضاء، الصابر في البأساء والضراء، المؤمن الذي يعلم أن له ربًّا يجبر الكسير، ويعطي على الصبر الثواب الكبير، الذي يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الذي اتصف بصفات عباد الله المؤمنين الذين وصفهم الله عز وجل بقوله:{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157].
الذين يصلي عليهم رب العزة، ويدخلهم في رحمته بسبب صبرهم على الأقدار، وينزل عليهم الرحمة، ويجعل في قلوبهم الهداية، ويملأ قلوبهم طمأنينة ورضا؛ ليعوضهم عما أصابهم، يعوضهم في الدنيا بما يشاء من أنواع التعويضات، ويكفر عنهم السيئات، ويزيد لهم في الحسنات.
إن المصيبة قد تكون للمؤمن سببا قويا في قربه من ربه، وقد تكون سببا في بلوغه منزلة عند الله لا تحصل له إلا بمثل هذه المصيبة، قد تخرجه من عداد الغافلين إلى منازل الصابرين، وتدخله في زمرة عباد الله المتقين، ففي الحديث الذي رواه الدارمي وابن ماجة عن سعد t قال: « سئل النبي r : أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة » وإن في قصص أنبياء الله، وفيما أصابهم من البلاء والمحن لعبرة من أكبر العبر، وكذلك فيما أصاب غيرهم من عباد الله المؤمنين، الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، ونوه عنهم نبيه الكريم r في سنته.
وإن في قصة أيوب - عليه السلام - أعظم عبر للمؤمنين، وأكبر تسلية للمصابين، فقد أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده ما لم يصب غيره، فقد كان له من الدواب والأنعام والحرث والأولاد والمنازل المرضية ما لم يكن لغيره، فابتلي في ذلك كله، وذهب ماله وولده، ثم ابتلى في جسده ولم يبق منه عضو سليم، سوى قلبه ولسانه، يذكر الله بهما - U - حتى تركه الجليس، وابتعد عنه الأنيس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق ممن يحنو عليه أحد سوى زوجته التي كانت تقوم بأمره. ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد كان - عليه السلام - يضرب به المثل في الصبر، فكان سيد الصابرين، وكان يقول - عليه السلام -: أحمدك يارب على الذي أحسنت إلى؛ أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلا دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرغت قلبي فليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني.
ثم إن الله U سمع تضرعه ودعاءه، ورفع عنه ما أصابه، ورد أهله وماله وأولاده، بسبب إيمانه وصبره، وزاده من الخير العظيم ما لم يكن في الحسـبان، فعوضه الخير العميم في الدنيا، وأعد له النعيم المقيم في الآخرة: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. وقد قال الله U عن نبيه أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]. فهذه عاقبة الإيمان والصبر، والعاقبة للمتقين.
هذا. وإن المصائب التي تمر على بني آدم كثيرة، وكل مصيبة دون المصيبة في الدين، فهي تكون أجرا لصاحبها إذا صبر واحتسب الأجر، وأما المصيبة في الدين فهي التي لا تجبر أعاذنا الله وإياكم منها.
وإن مصيبة الموت قد تكون خيرًا لصاحبها، لا سيما إذا نال بها الشهادة؛ وذلك كالقتل في سبيل الله، وكذلك الغريق والحريق ونحوهما ممن ورد في الحديث تعدادهم من الشهداء، فقد وردت أحاديث تدل على أن هؤلاء من الشهداء، كما في حديث جابر بن عتيك t أن رسول الله r قال: « الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذلك الجنب شهيد والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمْعٍ -أي: يسبب حملها- شهيدة ». الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
وقد أعد الله للشهداء من النعم المقيم، والفضل الجسيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: « يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين » . وفي صحيح البخاري من حديث سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله r : « رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء ».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 - 157].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الدائم بلا زوال، المتصرف في عباده باختلاف الأحوال، يثبت عباده الطائعين، ويجزل العطاء للصابرين، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ما توعدون لآت، وأنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر إلي دار الآخرة، فتزودوا من دنياكم لآخرتكم، وتداركوا هفواتكم بالتوبة والاستغفار قبل فواتكم. وإن كثرة المصائب، وتعدد الفجائع، وتنوع الكوارث، لأعظم معتبر، وأكبر مزدجر، وإن فيها تذكيرًا للمعتبرين، وإنذارا للغافلين، فالسعيد من وعظ بغيره، واتعظ وراقب الله في سره وعلنه، وعرف أحوال الدنيا، وتقلبها بأهلها، ولم يغتر بماله وولده ولا بصحته وشبابه، فكم أتت المنون بغتة ! فعلى العاقل الناصح لنفسه أن يراقب ربه، ويستعد لما أمامه، ويقلع عن معاصي الله، ويبتعد عن ظلم عباد الله، ويتوب إلى ربه توبة نصوحًا، قبل أن يغلق باب التوبة؛ قبل: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 56، 58].
المرفق | الحجم |
---|---|
16فضيلة الصبر.doc | 76.5 كيلوبايت |