الحمد لله ذي العز والكمال، والكبرياء والجلال، أنعم على عباده بالطيبات من الحلال، ونهاهم عن كل ما يعود عليهم وباله في الحال والمآل.
أحمده سبحانه على كل حال، وأشكره على سوابغ الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الأخيار.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلانية، واحذروا سخطه وأليم عقابه، فإن الله يعلم السر وأخفى{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر: 19]، { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
ألا فليتق الله عبد يخاف عقاب ربه، ويرجو ثوابه، ويبتعد عن الظلم والعدوان، وعن تعاطي ما حرم الله عليه ونهاه عنه، وهو يعلم أن الله مطلع عليه في خلوته وجلوته، وأنه سيجزيه بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
إن كثيرًا من الناس اليوم يقدمون على أعمال محرمة عليهم يعرفون تحريمها ويعلمون عقابها، ولكن حملهم على ذلك الشهوات المحرمة، أو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
لقد ابتلينا بالشح والتكالب على الدنيا والتكاثر فيها الذي أخبر الله عنه بقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2] والشح الذي يقول فيه r : « إنما أهلك من كان قبلكم الشح » كما في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر t أن رسول الله r قال: « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم » ([1]).
لقد أصبح الكثيرون منا لا يبالون من أين أخذوا الأموال من حلها أو من حرامها، حملهم على ذلك الطمع والتكاثر، ونسوا أمر الله، وأمنوا عقوبته. فترى الكثيرين لا يبالون بالمعاملات الربوية، يتعاطون الربا وهم يعلمون تحريمه وشدة الوعيد فيه، الذي يقول الله فيه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ويعلمون قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة: 278، 279] ومن يقوى يا عباد الله على محاربة الله ورسوله!!
ترى الكثيرين يأكلون أموال الناس بالباطل، فهذا يماطل الحق الذي عليه، وربما يجحده، وأنكره إذا علم أن صاحبه لا يقدر على تخليصه منه، إما لعدم البينة لديه، أو لعدم قدرته على مخاصمته، لكونه عاجزًا أو ضعيفًا أو قاصرًا.
والبعض الآخر يكون لديه الحق للآخرين، فلا يبذلوه إلا بتكره ومماطلة، أو لا يسمح ببذله إلا باقتطاع جزء منه، والبعض منهم قد يستولي على أموال الناس عندما يأتمنونه عليها، فيستغل حسن ظنهم به، فلا يؤدي أمانته على وجهها. ومنهم من يكون على عمل حكومي أو في مؤسسة قد ائتمن عليها فيخون من ولاه العمل، ويخون أصحاب الحقوق، ويضيع عليهم حقوقهم، أو يماطلهم بها، فهذا من الظلم المنهي عنه، وعدم الأمانة التي حملها.
وترى البعض من الناس جعل الله بضاعته لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه يكرر الأيمان الكاذبة من أجل الترغيب في سلعته، وقد أخبر r أن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة، فتذهب بركة ماله مع ما يحصل له من الإثم العظيم بأيمانه الكاذبة.
ومنهم من يحاول بخس حق المشتري، إما بتغيير السلعة المتفق عليها بعد البيع، أو بتطفيف الكيل والوزن، والله قد توعد المطففين بالعذاب الشديد فقال سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6].
وبعضهم يستعمل الحيل والمراوغة والخداع وربما رفع قيمة السلعة على من يظنه يجهل قيمة هذه السلعة.
والبعض من الناس لا يبالي بالشهادة فيشهد وهو غير متأكد، وربما شهد شهادة الزور، واقتطع حق أخيه المسلم لغيره، بسبب شهادته الباطلة، فيظلم نفسه ويظلم المشهود عليه بأخذ حقه، ويظلم المشهود له بإدخال الحرام عليه، ويغرر الحاكم بالحكم بغير الحق، هذا بالإضافة إلى ما ارتكب من الجريمة وباء بالإثم، واستحق العقوبة من الله، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي بكر t أن رسول الله r قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور » فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت » ([2]).
والبعض من الناس يكون على ولاية أئتمنه ولاة الأمور على دماء الناس وأموالهم وفروجهم، فيحمله الطمع والجشع على عدم إيصال الحق لصاحبه إلا بعناء شديد، أو أخذ عوض على عمله الذي أقامته الحكومة لإيصال الحقوق إلى أهلها، وتخليص المظلوم من الظالم، فربما ماطل باستخراج الحق وإعطائه صاحبه أو أعان الظالم على ظلمه لأمر من الأمور أو من أجل أن يتحصل على جزء من مال صاحب القضية بغير حق، وهذه هي الرشوة التي ورد الوعيد على من اتصف بها، بل هي نوع من أنواع الرشوة التي يستحق صاحبها لعنة الله كما جاء عن أبي هريرة t عند الترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم قال رسول الله r : « لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم » ([3]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: « لعن رسول الله r الراشي والمرتشي» ([4]) قال العلماء: الراشي هو الذي يعطي الرشوة، والمرتشي هو الذي يأخذ الرشوة.
وفي الحديث الآخر أن رسول الله r قال: «لعن الله الرائش أيضًا » ([5]) وهو الساعي بينهما.
فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتهيئوا للعرض الأكبر على الله{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 18 - 20].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: « من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه » ([6]).
فاتقوا الله ربكم، وخافوا من ذنوبكم،{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [البقرة: 281].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2587).
([2]) رواه البخاري في كتاب الشهادات (5/260) ومسلم في كتاب الإيمان رقم (87).
([3]) رواه الترمذي في كتاب الأحكام رقم (1336) وحسنه.
([4]) رواه أحمد في مسنده (3580).
([5]) تقدم تخريجه .
([6]) رواه البخاري في كتاب المظالم (2449).
المرفق | الحجم |
---|---|
1التحذير من المحرمات.doc | 78.5 كيلوبايت |