الحمد لله وفق من شاء من عباده للرضا والقناعة، وهداهم لسلوك سبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن طريق أهل التفريط والإضاعة . أحمده سبحانه على عطائه العميم، وأشكره على إحسانه القديم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، ذو الخلق العظيم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم القويم .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وانتبهوا من رقدتكم، واحذروا من غفلتكم، فالسعيد من تيقظ ليوم المعاد، وخاف من عذاب الله يوم التناد، فما أقرب الممات من الحياة . واحذروا عباد الله من الأعمال السيئة التي حذركم منها إلهكم، وخوفكم من مغبتها، وأمركم بالبعد عنها، لتسلموا من غوائلها، وتأمنوا من عواقبها .
ألا وإن من أقبح الخصال الذميمة الغفلة عن ذكر الله، والتثاقل عن طاعة الله، وعبادته، والاتصاف بالكذب، والغيبة، والنميمة، والطعن في أعراض المسلمين، والتطاول على عباد الله المؤمنين، وإن من أشر الخصال الكذب الذي حرمه الله في القرآن الكريم، وحذر منه غاية التحذير، يقول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }[غافر:28]، وكما قال عز وجل: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ }[النحل:105] فوصف سبحانه الكاذبين بأقبح ما وصف به الكافرين الجاحدين لآيات الله، للتنفير منه، ومحاربته، والترفع بالأمة الإسلامية عن أن تهبط إلى مزالقه، أو تهوي في حضيضه، ولقد حذر منه عليه الصلاة والسلام غاية التحذير حينما سأله رجل فقال: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال « نعم »، قيل: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: «نعم»، قيل: أيكون المؤمن كذابًا ؟ قال: « لا » ([1])، وما ذاك إلا لأن الكذب خصلة ذميمة تهوي بصاحبها إلى الهوان . والإسلام يربأ بأهله عن ذلك، ويطلب لهم الشرف والرفعة والعز والكرامة وعلو الشأن .
وإن من أنواع الكذب المغلف بالعبارات البراقة، والأساليب المشوقة، الذي يتردد صداه، ويقرره أربابه، وكأنه حقيقة لا تقبل الشك، فتتبلبل الأفكار، ويكون سببًا في إثارة فتنة عمياء، أو إشعال نار العداء بين عباد الله المسلمين، هي الإشاعات التي يتناقلها الناس من الأقوال والأحاديث والأخبار التي يروونها بدون تثبت من صحتها، أو التحقق من صدقها .
لذلك جاء النهي القرآني الكريم عن قبول الخبر إلا بعد التثبت خشية وقوع الكذب، قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }[الحجرات:6] ولقد جاء ذكر الفاسق هنا، لأنه مظنة الكذب.
وقد أخبر r أن المنافق إذا حدث كذب، وإنما أمر سبحانه بالتثبت ؛ لئلا يشيع الكذب بين أفراد المجتمع الإسلامي في كل ما ينقله أفراده، من أقوال، وأخبار فيقع الشك في أخبار ذوي العدالة والصدق، فالأصل في المسلم أن يكون موضع ثقة في مجتمعه، وأن تكون أقواله مصدقة مأخوذًا بها، فأما الفاسق فهو محل شك حتى يثبت خبره، ولذلك أمر الله بالتثبت حتى يتبين الأمر في صدقه أو كذبه، وحتى لا تقع الأمة في تصرف بناء على خبر أتى من فاسق، فتصيب قومًا بظلم عن جهالة، فتندم على ارتكابها ما تأثم به، ويغضب الله عز وجل.
وكما أمر سبحانه بالتثبت فيما ينقل من الأخبار، فقد حذر رسوله r أيضًا أن ينقل المسلم كل ما يسمعه من كلام وأخبار، فإنه متى فعل ذلك وقع في الإثم لا محالة، فقد جاء في الحديث الصحيح عنه r أنه قال: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع » ([2])، لأن ما يسمعه غالبًا يشتمل على الصدق، وعلى الكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فإنه يقع في الكذب لا محالة، والكذب هو الإخبار بغير الواقع، وإن لم يتعمد ذلك، فإن تعمد الكذب وقع في الإثم، وإن إشاعة الأخبار المغرضة التي تلوث أعراض المؤمنين من أخطر الأمور، وقد حذر القرآن الكريم منها، وجاء الوعيد الشديد لمن فعل ذلك . يقول سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}[النور:19].
وإن من يروِّج الإشاعات لا يخلو مراده من مقاصد إما أن يكون ترويجه للإشاعة بقصد النصح بزعمه أو بقصد الشماتة أو الفضول، أو بقصد قطع أوقات المجالس بذكر هذه الإشاعات أو للتزلف للآخرين، وكل هذه الأمور تنافي حسن الإسلام لقوله r: « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ([3]).
عباد الله: إنه يجب على العبد أن يتقي الله في نفسه، وأن يتذكر أنه محاسب على كل كلمة تصدر منه، كما قال عز وجل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18] ومما يجب عليه أيضًا أن يتحرى سلامة القصد وحسن النية، فإن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:235].
عباد الله: إن على العبد أن يتثبت، ويتريث في نقل الأخبار، وأن يحذر أن يزيد في نقله عما سمعه أو رآه حتى تبرأ ذمته، وأن لا يبادر بتصديق الإشاعة إذا لم تكمل عنده القرائن والأدلة على صدق ما سمع .
وإذا كانت الإشاعة صادرة من شخص مغرض، أو له قصد سوء في إشاعة الأمور، أو غرضه البلبلة والإفساد، فلا ينبغي الإصغاء لها، بل يجب ردها، وتفنيدها، والتحذير منها، لا سيما إذا كانت تتعلق بولاة أمور المسلمين الذين يقيمون حدود الله، وينفذون شريعة الله،ويأمرون بالمعروف،وينهون عن المنكر،ويحافظون على حقوق العباد، ويحصل بهم الأمن للأمة والبلاد، فهؤلاء علينا الدعاء لهم، ومحبتهم، والكف عن أعراضهم، والبعد عن إلصاق التهم بهم بالزور والبهتان، وكذا العلماء المشهود لهم بالخير وحسن المعتقد والقصد، الذين يبينون شرع الله، ويوجهون الناس للخير وسلوك الطريق القويم، فإن تنقصهم والوقوع في أعراضهم مرتع وخيم، وإثم مبين . وكذا الأمر في الذين يتولون أمور الناس من حكام وقضاة ومسئولين، فإن هؤلاء يقع الناس في أعراضهم لعدم حصول أغراضهم منهم، ولو كانت باطلة أو بغير حق، ولأنهم محسودون على ولايتهم وما هم فيه من المكانة التي يتمناها هذا المغرض المتكلم بالباطل، ليزيل نعمتهم بزعمه، إما لعلها تحصل له، أو ليشفى غيظه بالكلام بأعراضهم والتنقص لهم، وإلصاق التهم فيهم، وما يعلم هذا المأفون أن نعم الله لا يجرها حرص حريص، ولا يردها كراهية كاره، وقد قال النبي r لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف » ([4]).
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا جاهدين على الترفع عن الكذب بأساليبه المختلفة، والترفع عن الزور والبهتان، فقد صح عنه r أنه قال: « إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار » ([5])، والله عز وجل يقول في محكم كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التوبة:119] فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، كما أمركم الله بذلك، فإنه ما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا.
نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم،وبهدي النبي الكريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في أقوالكم وأفعالكم، وفي سركم وعلنكم.
أيها المؤمنون: إنه ينبغي أن يعلم أن ترويج الشائعات بين المسلمين أمر خطير، يؤدي بالأمة الإسلامية إلى الهلاك والدمار، وقد حرم الله عز وجل الفساد وإشاعة الفتن بين الناس، فحذر سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعل إشاعة السوء ونقل الكلام من قوم إلى قوم، ومن فرد إلى فرد، جعل ذلك آية البلاء، ونذير الفناء . يجلس النمام بين الناس، فيشيع بينهم كلمة، قد يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفًا، يتصنع الصلاح والديانة، ليغرر بالناس، فينشر العداء، ويشيع الضلال، ويحدث الفتن بين العباد، هبطت نفسه، وتجرد من الأخلاق الفاضلة، وعثى في الأرض فسادًا، وكان مصدرًا للأذى والشر، وداعية للتفرق والتنازع، فهو حلاف مهين، همازٌ مشاءٌ بنميم . فما أتعسه في الدنيا، وما أشقاه في الآخرة،{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
أي حظ لك في أن تكون كالثعلب في روغانه، أو كالأفعى في نفث سمومها، ماذا تجني من الإيذاء لخلق الله !! وما حظك في أن تكون شيطانًا من شياطين الإنس، وقد خلقك ربك إنسانًا كريمًا .
يا من اغتر بالدنيا وزينتها، واعتمد على مكره وحيله، اتق الله واجعل حظك من الدنيا نيل مرضاة الله، وقد لنفسك خيرًا تجده عند الله، فإنك إن عشت عشتَ عزيزًا حميدًا، وإن مت لم يمت ذكرك، وكنت عند الله مرحومًا، وعند الناس محمودًا، ولقيت خير الجزاء بما قدمت من صالح الأعمال {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}[طه:74-75] .
([1]) رواه مالك في موطئه في كتاب الكلام رقم (19) باب ما جاء في الصدق والكذب .
([2]) رواه مسلم في المقدمة رقم (5) .
([3]) رواه مالك في الموطأ في حسن الخلق 2/470 باب ما جاء في حسن الخلق .
([4]) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة و الرقائق والورع رق (2516) .
([5]) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة رقم (1971) .
المرفق | الحجم |
---|---|
25حول نقل الإشاعات المغرضة.doc | 81.5 كيلوبايت |