الحمد الله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للصابرين، أمر عباده بسلوك سبيل البر والطاعة. وحذرهم من دروب أهل التفريط والإضاعة، أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أظهر الله به الحق والهدى، وطمس به معالم الشرك والردى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقواه جُنَّة من عذابه، وموصلة إلى جنته ومرضاته، إن التقوى مكفّرة للذنوب، ومفرّجة للكروب، جالبة لأسباب الرزق، إنها من أقوى أسباب تحصيل العلم، وحصول السعادة الأبدية، يقول سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق: 4]. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق: 5]. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3]: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282].
إن التقوى: هي اجتناب ما حرم الله عليك، وفعل ما أمرك الله به، مما أمر به في محكم كتابه، أو على لسان رسوله r، فإذا فعلت المأمور، وابتعدت عن المحظور طاعة لله وخوفا من عقابه، فقد اتقيت الله، وكنت من أولياء الله المتقين، الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].
آمنوا بالله وحده، وآمنوا برسله، واتبعوا أمره، واجتنبوا نهيه، وكان هواهم تبعا لما جاء عن الله، وعن رسوله r، كما قال r: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئتُ به ».
فإذا رزق الله العبد هذه النعمة العظيمة، التي هي السلامة من الأهواء المضادة لما جاء به الرسول r ، وكان هواه موافقاً ومتبعاً لأمر الله وهدي نبيه، فقد استكمل الإيمان، وفاز بالأمان، ونال السعادة في دينه ودنياه، فلن يبلغ العبد درجة المؤمنين بحق، حتى يكون هواه تبعا لما جاء به النبي الكريم r، من الاستسلام لله، والإيمان به والاتصاف بالإحسان، فإذا كان كذلك، فإنه يستلذ الطاعات بميوله ومحبته لها، وباطمئنان قلبه إلى ذلك وينفر من المعاصي، ويكرهها بقلبه، ويشمئز منها بطبعه، فهو يهوى الطاعات، ويحبها، ويؤديها ونفسه مطمئنة، فرحة مسرورة:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58].
فإذا كان المسلم على هذه الصفة فقد كمل إيمانه، وبمقدار ما يحصل من خلل في عمله، يحصل النقص في الإيمان، ومن المعلوم أن النفوس تميل بطبعها إلى الشهوات والمعاصي وتثقل عليها الطاعات والعبادات، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ولكن متى ما عود المرء نفسه على أداء العبادة على وجهها، والبعد عن المعصية، وجاهدها في ذلك حصل له العون من الله، وسهل له طريق العبادة، وكرّه إليه المعصية، يقول سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
فإذا جاهد نفسه، وعلم الله منه الصدق في ذلك، حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
وبدون الصبر، والمجاهدة لا يستكمل العبد الصفات الحميدة لا في دينه، ولا في دنياه. والله-سبحانه-قد وهب العقل للإنسان؛ليعرف به ما ينفعه وما يضره، ويعقل عن الله أمره فيما ينهاه عنه ويأمره به؛ولذلك سمي العقل عقلا؛لأنه يعقل صاحبه عما يضره، ويشينه، فالعاقل:هو الذي يملك زمام عقله ويجاهد نفسه، ويصبر على أداء ما وجب عليه من حق الله، وحقوق عباده فيجب على العبد أن يشكر الله على نعمة العقل، ويعقل عن الله أمره، وأن لا يضيع ما وهبه الله من نعمة العقل والبصيرة، وأن يحذر من غلبة الهوى على العقل؛ لأن العبد متى أقبل على فعل المحرمات، وتكاسل عن أداء الواجبات، فقد غلب هواه على عقله، وغلبة الهوى على العقل من أضر ما يكون على المسلم، فهواه يقوده إلى كل سوء، ويحسن له كل باطل، ويورده كل شر، يقول سبحانه:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:43- 44].
كم قاد الهوى صاحبه إلى الهلكات، وزجه في الورطات، كم قاده إلى الشرك بالله الذي هو أعظم الذنوب على الإطلاق، كم قاده إلى ارتكاب المحرمات، وحسن له ترك الواجبات، كم قاده إلى شرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، كم حال الهوى بينه وبين عقله ؛فأقدم على أمور منكرة، وأحوال مستنكرة، كم أوقعه في أمور كان فيها حتفه، وشقاؤه في الدنيا والآخرة.
فعليك أيها المسلم الحذر كل الحذر من الهوى ومن أسباب الشقاء، والزم -رحمك الله- التمسك بدينك، واتباع هدي نبيك، والسير في منهاج الصالحين، ودروب المتقين، ومجالسة أهل الصدق، والوفاء والبر والتقى؛لتحصل لك السعادة في العاجل والآجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
المرفق | الحجم |
---|---|
27الحذر من الهوى.doc | 75 كيلوبايت |