(ألقيت في أخر شهر محرم عام 1411هـ)
الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وجعل الجهاد في سبيله ذروة سنام الإسلام، أحمده سبحانه على سوابغ نعمه، وترادف مننه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:78] وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقواه جنة من عذابه، وأمن من عقابه، إن من اتقى الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا غالب له .{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }[النحل:128] وإن تقوى الله هي القيام بأوامره،واجتناب نواهيه،والبعد عن أسباب سخطه ومناهيه.
واعلموا عباد الله أن جميع المصائب الخاصة أو العامة إنما سببها الذنوب والمعاصي يقول سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }[النساء:79] وإن ما ابتلي به المسلمون اليوم من تكالب ذوي البغي والعدوان على بعض البلاد الإسلامية قد يكون سببه الذنوب، وإن الله سبحانه فتح لنا باب التوبة والاستغفار، كما جاء في الحديث: « من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب » ([1]) وقد قال بعض السلف: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة .
فتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وتضرعوا إلى الله والتجئوا إليه، وتعلقوا بقلوبكم إلى ربكم، واصمدوا أمام أعدائكم، وتوكلوا على الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وتذكروا قوله سبحانه: { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد:7] ونصرة الله إنما هي بنصر دينه وكتابه، وسنة نبيه r ، وثقوا وأبشروا بنصر الله لعباده المؤمنين.
وإن ما وقع في هذه الأيام من بعض المعتدين الحاقدين باعتدائه على أمن بعض البلاد الإسلامية، والتسلط عليهم، وسفك دمائهم، وهتك أعراضهم، والاستيلاء على أموالهم، وتشريدهم، وتدمير بلادهم ؛ شيء يندى له الجبين .
إن المُعْـتَـدَي عليهم أمة مسالمة، فكيف يغدر بها أناس من جيرانها لم يراعوا حق الإسلام، ولا حق الجوار، بل ولا حق النسب، أين الشيم العربية؟ . إنه مخالفة لتعاليم الإسلام، ونبذ لكتاب الله . إن الله عز وجل نهى نبيه محمدًا r عن مهاجمة أحد من الكفار إلا بعد إنذارهم، ونبذ عهدهم إذا أحس منهم خيانة، أو نقضًا للعهد، فأوجب الله على رسوله أن يعلمهم بذلك، ويخبرهم بنبذ عهدهم، ولا يهاجمهم في غرة من أمرهم وأمنهم ؛ لأن هذا يعتبر خديعة، ولا خديعة في الإسلام بغير حق، فلهذا يقول عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58].
وإن مما يؤسف له أن تصر هذه الدولة الظالمة المعتدية على الاستمرار في عدوانها وبغيها على تلك الدولة الصغيرة المسالمة التي طالما ساندتها إبان محنتها، ثم محاولة الاعتداء على غيرها من الدول المجاورة المسالمة التي تحب السلام والوئام، وتحرص على جمع الكلمة بين المسلمين . وكم بذلت من مساعداتها ماديًا ومعنويًا لهؤلاء المعتدين وقت حاجتهم وضرورتهم ولم تأل جهدًا في نصرتهم فما هذا التنكر للجميل ؟! . وما هذا الجزاء على المعروف؟ أين الأخوة الإيمانية والإسلامية ؟ هل جزاؤها حشد الجيوش والدبابات على حدودها .
إن دين الإسلام يا عباد الله الذي هو دين العزة والكرامة لا يقبل الضيم ولا يقر الظلم، ولا يرضى بالاستسلام للعدوان، ولا سيما إذا صدر هذا العدوان ممن كان يرجى منه العون من الإخوة والجيران، فظلم ذوي القربى على النفوس أشد مضاضة لما فيه من التطاول، ومنتهى الغضاضة، ولذلك أعطى الإسلام للمعتدى عليه، والمظلوم، حق الدفاع عن النفس إذا لم يجد وسيلة أخرى للدفاع عن حقه . بل إن الإسلام جعل نصرة المظلوم، وانتزاع الحق من الظالم، من أوجب الواجبات على الأفراد، والجماعات، والدول والحكومات . فقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وقال تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الشورى:41-42] { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:39-40] ويقول سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }[الحج:39] وفي الحديث القدسي فيما يرويه النبي الكريم عن ربه: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا » ([2]) وقال r: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا » قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا ؟ قال: « تحجزه وتمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصر له» ([3]) وفي رواية: تأخذ فوق يديه أي تكفه عن الظلم بالفعل إن لم يكفه القول . ولو كان الظلم والعدوان منحصرًا في التهجم باللسان لأمكن التجاوز عنه بالإهمال والنسيان امتثالًا لقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ }[القصص:55] وقوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف:199] لكن متى أصبح العدوان منصبًّا على الأرواح والأموال والأعراض والإفساد في الأرض وأصبح المُعْتَدي يمارس العدوان على أنه هدف من الأهداف وغرض من الأغراض لم يعد في الإمكان التغاضي عنه أو مقابلته بالإهمال والإعراض يقول r: « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » ([4]) وقال r: « من كانت فيه خصلة من أربع كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر » ([5])، فكيف يا عباد الله إذا اجتمعت كلها في شخص !! قال r: « والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ، قيل: مَـنْ يا رسول الله ؟ قال: « الذي لا يأمن جاره بوائقه » ([6]) .
عباد الله: إن الله عز وجل ندب الأمة عند الإحساس بالخطر على دينهم وأمنهم وبلادهم بأخذ الحيطة والحذر، يقول سبحانه{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}[النساء:71] وهذا أمر من الله لعموم المسلمين، وعلى ولاة الأمور بالخصوص، وإن على ولي أمر المسلمين أن يعمل الحيطة للدفاع عن الإسلام ومقدساته وشعائر الله التي ولاه الله عليها بأن يبذل جميع ما يملكه من قدرات مادية ومعنوية وبشرية وحربية للوقوف أمام الطغاة والمعتدين، وأن يبذل كل ما يستطيعه . وإن الاستعانة بالجيوش الإسلامية، وغير الإسلامية، أمر يحتمه الواقع، وتقتضيه الحال، وتقره شريعة الإسلام، ولنا بذلك أسوة بفعل المصطفى r في غزواته ومعاهداته، وفي حربه وسلمه .
فلقد استعان r بعبد الله بن أريقط عندما تكالبت عليه قريش لإرادة الفتك به، فأعطاه النبي r رواحله وأتاه بعد ثلاث، وذهب به إلى المدينة مع طريق خفي، حتى وصل إلى المدينة بسلام، وقد كان عبد الله بن أريقط في ذلك الحين مشركًا ([7]).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r استعان بناس من اليهود يوم خيبر. رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وسعيد بن منصور في سننه ([8]).
وقد وادع النبي r يهود المدينة، وكتب صحيفة بينهم وبين الأنصار، وجاء فيها: وأن بينهم النصر على من دهم يثرب ([9]) .
وفي غزوة حنين خرج صفوان بن أمية مع النبي r وهو مشرك، وأسهم له من الغنيمة، وقد استعار منه كمية من الدروع كثيرة، وزعها r على المقاتلة ([10]) .
وقد اتفق علماء المذاهب الأربعة على أن للإمام الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة بناء على تلك الأدلة وغيرها كما هو معلوم لدى العلماء من كتب الإسلام .
وإنه يا عباد الله يجب على كل مسلم عندما يأمر إمام المسلمين بالجهاد أن يبادر إلى ذلك بنفسه وبماله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[التوبة:111].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله القوي العزيز، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العرش العظيم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وسيد المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله،اتقوه حق تقاته، واعملوا بطاعته، واعلموا أن سلاح المقاومة المادي للأعداء الذي يتمثل في الحديد والنار، والقذائف والطائرات، إنما هو سبب من الأسباب، وأنه يجب أن يدعم أيضًا بالأسباب الأخرى، وهو السلاح الروحي، وهو الالتجاء إلى الله، والتضرع إليه بالدعاء، والابتهال إلى الله، والتذلل بين يديه، فإنه العدة الواقية، والحصن الحصين، إذا قارنه صدق الالتجاء، فإن دعاء المظلوم ليس بينه وبين الله حجاب، كما صح الحديث بذلك.
ولقد أخذ رسول الله r عندما التحمت جيوش الباطل مع جيوش الحق في غزوة بدر أخذ r يناشد ربه ما وعده به من النصر، ورفع يديه إلى السماء، متضرعًا إلى ربه، حتى سقط رداؤه، وحتى أشفق عليه أبو بكر الصديق، وأخذ يقول له: كفاك مناشدتك ربك، إنه سينجز لك ما وعدك([11])، وإذا كان هذا فعل رسول الله r فحري بنا أن نلح في المسألة ليل نهار، خصوصًا في أوقات الإجابة، وأدبار الصلوات، ووقت السحر، وأن نكثر الدعاء بقلوب صادقة، وإيمان ثابت، وتوبة نصوح . يقول سبحانه:{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60] ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }[البقرة:186]. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] فألحوا عباد الله في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء .
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العالمين، حسبنا الله ونعم الوكيل، يا قديم الإحسان، يا من إحسانه فوق كل إحسان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا من لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه شيء انصرنا على أعدائنا، انصرنا على القوم الحاقدين، انصرنا على القوم المعتدين، انصرنا على القوم الباغين، وأظهرنا عليهم في عافية وسلامة عامة يارب العالمين . اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك .
اللهم شتت شملهم. اللهم فرق كلمتهم. اللهم اجعل بأسهم بينهم. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم. ونعوذ بك من شرورهم. اللهم استر عوراتنا، وآمنا مما نخاف.
اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد سواك. اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين. اللهم آمنا في أوطاننا واحفظ بلاد الإسلام من كل جبار عنيد، ومن كل معتد مريب.
اللهم احفظ ولاة أمورنا، وأئمتنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، ومُنّ عليهم بالتوفيق والتسديد. اللهم سدد سهامهم وآراءهم وأعنهم ولا تعن عليهم يا رب العالمين .
([1]) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، رق (1518)، وابن ماجة في كتاب الأدب، رقم (3819) .
([2]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، رقم (2577) .
([3]) رواه البخاري في كتاب الإكراه، رقم (6952) .
([4]) رواه البخاري في كتاب الإيمان، رقم (10) .
([5]) رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب، رقم (2459) .
([6]) رواه البخاري في كتاب الأدب رقم، (6016) .
([7]) انظر فتح الباري 7/232 .
([8]) انظر تلخيص الحبير 4/100، ونصب الراية 3/422 .
([9]) انظر سيرة ابن هشام 2/119 .
([10]) انظر شرح النووي على مسلم 6/198، فتح الباري 6/179، عمدة القاري 14/308، المعتصر من المختصر من مشكل الآثار 1/229 .
([11]) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير رقم (2763) .
المرفق | الحجم |
---|---|
17خطبة حادثة الكويت.doc | 89.5 كيلوبايت |